قبل نحو 2500 عام، في الصين، كتَبَ واحد مِن أشهر قادة الحرب في التاريخ: «إنّ إحراز مئة نصر في مئة معركة ليس هو الأفضل، بل إنّ إخضاع العدو، دون قتال، هو أفضل ما يكون». إنّه صن تزو صاحب مؤلّف «فنّ الحرب»، الكتاب الذي أصبح أيقونة كلاسيكيّة تُدرَس في المعاهد والكليّات الحربيّة. كان تزو حكيماً، عاقلاً، أخلاقيّاً إلى حدّ ما، وقد دفع ثمن ذلك في النهاية أمام «شهوة القتل» التي كانت تُحرّك المَلِك. أقصي مِن موقعه بعد سجلّ حافل بالانتصارات. يحدث أن يحلّ «رأي عام» مكان المَلِك.
رغبة جماعيّة تجنح نحو القتل، مجرّد القتل، إرضاءً لنزعة الانتقام، بعيداً عن الأهداف الكبرى للحرب. شيء مِن هذا شاع، قبل أيّام، في لبنان. رأي عام، وهذا مصطلح إشكالي يحتاج ضبطاً، يسأل، منزعجاً، عن سبب ترك ما بقي مِن «الدواعش» يُغادرون بدل أن يُقتَلوا. ربّما يُفهم أن يصدر هذا عن قواعد شعبيّة، مِن مختلف الجهات، لكن أن يصدر عن «قادة رأي» وزعماء ووجهاء، فهذا ليس تفصيلاً. هؤلاء إمّا جهلة، وهذا وارد مع حُسن الظن، وإمّا أنّ لديهم عاهة نفسيّة، قبل أيّ شيء آخر، تجعلهم يستريحون لرؤية الدم، كلّ الدم، مِن «الدواعش» المُحاصَرين، إلى الجيشين اللبناني والسوري، ومعهما حزب الله، الذين كانت سترتفع فاتورة دمائهم، حتماً، لو كان الخيار هو القتال حتى آخر داعش في الجرود. غالباً لا يكون لأولئك المنظّرين أقارب، مِن لحمهم ودمهم، في أرض المعركة. يعيب هؤلاء على حزب الله أنّه نجح في مفاوضة «داعش». غالباً لا يعيبون المفاوضة، في أصلها، إنّما أزمتهم في أنّ الحزب نجح في ذلك، وهم، مَن هم، أدمنوا الفشل في المفاوضات سابقاً... فضلاً عن فشلهم في الحرب. القَتلُ في الحرب وسيلة لكسب الحرب، ولكن عندما تُكسَب هذه، بدماء أقلّ مِما كان يُتوقّع، فأيّ سبب يبقى لاستمرارها؟ مَن مِنّا لا يتمنى رؤية أولئك «الدواعش» يُحاكمون قضائيّاً على أفعالهم؟ لكنّها الحرب. ميدان زفرات الأبطال لا ضجيج العيال. فليبارك كونفوشيوس روح تزو إذ كتب: «الحرب مسألة خطيرة للدولة، إنّها ميدان الحياة والموت، وهي الطريق التي تؤدّي إلى العيش أو الفناء... والمُخطِّط الجيّد هو مَن يُخضِع العدو مِن غير قتال. وإلا فالقتال، إنّما وفق شروط، ومِنها: اختصار فترة الحرب وتخفيف الآلام والخسائر البشريّة». هذا ما فعله السيّد حسن نصر الله. السيّد الحريص على مقاتليه، والحلفاء، حرصه على فلذة كبده. هو الذي كان كبده في الميدان، قبل عشرين عاماً، واستشهد. المسألة شخصيّة؟ حتماً لا، خاصّة عنده، لكن مِن البلاهة أيضاً إغفال هذا الجانب. إنّه القائد الذي جرّب كلّ شيء تقريباً.
مسألة أخرى في خصوصيّة هذا القائد. إنّها مرجعيّته الأخلاقيّة. لا علاقة لتشيّعه على الهويّة، أو لأنّه سليل عائلة شيعيّة، بل لنضج «آداب الحرب» العَلويّة في نفسه. يُمكن أن يُقال، على الجزم، إنّ بعض المستشرقين فهموا السيّد نصر الله أكثر ممّا فهمه كثيرون، هنا في هذه المنطقة، مِمّن شاركوه التراث والتاريخ والحضارة. نرى ذلك المُقاتل مِن حزب الله، قبل أيّام، ينحني أمام «الداعشي» المُصاب، المُلقى أرضاً، فيقول له: «طبابتك بعينينا، أكلك وشربك بعينينا، عيالك بقلبنا، عيالك هم عيالنا، أعراضك هم أعراضنا، نحن ما منتعدّى على عرض، وما منظلم». قالها له بلهجته اللبنانيّة. كان ذاك الجريح، إلى قبل لحظات، يُريد قتله، ولو أمسك به لحزّ عنقه. هذا الشاب، مِن حزب الله، هو نتاج أخلاقي للسيّد نصر الله في حزبه. نتاج لفهم السيّد أخلاق الحرب وفق المنظومة العَلَويّة. يُمكن أيّاً كان أن يختلف مع حزب الله، في السياسة وغيرها، ولكن ألا تحاول قراءته عميقاً فهذا غباء.

شرطَ صن تزو دخول الحرب باختصار فترتها وتخفيف الآلام والخسائر البشريّة
ألا تُفهَم منطلقاته. ستجد في الحزب مَن يشذّ عن تلك القاعدة، هذا طبيعي، إنّهم بشر ينطبق عليهم نفسيّاً ما ينطبق على كلّ بشر. تحصل تلك الخروق في كلّ الحروب، هذه الصنعة التي لم يعرف الإنسان ألماً فوقها، إنّما، بمطلق الأحوال، تبقى تلك «القاعدة الأخلاقيّة» هي المسار العام للحزب. قطعاً، قرأ السيّد «آداب الحرب» العلويّة عن تأخير وقت القتال نهاراً: «فهو أقرب إلى الليل وأجدر أن يقلّ القتل ويرجع الطالب ويفلت المنهزم». وقرأ، يقيناً، منع ماء النهر عن مُعسكر علي، ثمّ عند تمكّنه مِن ذاك النهر لم يَمنع معسكر العدو عنه. هال ذلك جنده... قبل العدو! إن صرنا مثلهم فعلامَ نُقاتلهم؟ صحيح، تلك الأخلاق أورثته حزناً أبديّاً، وإنّها مِن «آيات الشهادة» على التاريخ، كما قال عنه عباس العقّاد في سلسلة «العبقريّات». يَكتب العراقي عزيز السيّد جاسم: «كان بطل الانتصار حزيناً، رفيعاً في حزنه، لم يحتقر الذين قاتلوه، بل حزن مِن أجلهم». إنّها أشياء مِن قبيل اللامعقول. ليس جديداً أن لا تُفهم هذه الأشياء. لكن عموماً، مَن أراد أن يفهم نصر الله، مِن الأصدقاء والأعداء، فليقرأ عليّاً. هذه ليست دعوة مذهبيّة، وليس بالضرورة دينيّة. فلتكن قراءة «أنثروبولوجيّة» مجرّدة بين التاريخ والحاضر. دعوة للفهم. هي معركة أخلاقيّة عند نصر الله، أخلاقيّة محض، ونحن على ذلك مِن الشاهدين.