يبدو الرئيس نبيه بري أكثر المرتاحين الى ما حققه في الأسابيع الأخيرة، بعدما بدا أنه أصيب بنكسة يوم تلمّس الاتجاه الى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتخطّيه في ترتيب أولويات السلّة التي اقترحها.
لكن بري سرعان ما استعاد المبادرة، بعد انتخاب عون، ليفرض إيقاعه من دون منازع على مسار تأليف الحكومة التي توسط أعضاءها في الصورة التذكارية. تخطى رئيس المجلس لحظة استيعاب انتخاب عون، مستفيداً من تفويض حزب الله له إدارة التفاوض الحكومي واختيار الوزارات لقوى 8 آذار، محصلاً بذلك حصة وازنة، لها تأثيرها في قرارات مجلس الوزراء، بعددها وأسماء شخصياتها وحقائبها.
بعد الحكومة، يأتي قانون الانتخاب الذي سيكون عصب المرحلة المقبلة وعمادها الأساسي. وهنا، يعود بري ليلعب دوراً محورياً في إعادة تعويم سلته التي اقترحها قبل انتخاب الرئيس، بتقسيط عناوينها، ليفرض مجدداً الاتجاه الذي يرتئيه في شأن قانون الانتخاب.
في هذا المشهد، يكمن أمران بارزان:
الأول أن بري يرسم سيناريو التفاوض بين حدّي القانون المختلط الذي قدمته كتلته النيابية والقاضي بانتخاب النواب مناصفة بين الأكثري والنسبي، والاقتراح الجديد المتعلق بالتأهيل على مستوى القضاء والفوز بالنسبية على المحافظة، وهو الاقتراح الذي سبق أن قدمه «كأفكار جديدة تغيّر المعادلة» على طاولة الحوار التي انعقدت في آب الفائت، وكان محورها سلة بري والأولويات الواجب اعتمادها لإخراج البلد من أزمته.
ويرجح من يعرف بري أن يقدم الاقتراح الأخير على الأول لرفع سقف التفاوض، وخصوصاً أن الكتل الثلاث، المستقبل والقوات واللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، التي قدمت مشروع المختلط بين الأكثري (68 نائباً) والنسبي (60 نائباً) كانت تفاوض بري للتوفيق بين المشروعين وتقليص هامش الاختلاف بينهما من دون نتيجة.

يخشى معارضو بري أن يثمر ضغطه في قانون الانتخاب كما في الحكومة

وبحسب المعلومات، فإن رئيس المجلس سيذهب الى الضغط أكثر في اتجاه الاقتراح الثاني، ولا سيما أنه لم يجد رفضاً من التيار الوطني الحر، بل لقي تجاوباً متقدماً لمناقشته بجدية، وهو ما تبين خلال المفاوضات التي جرت إبان تأليف الحكومة، الى حد اعتبار البعض أنه جرت مقايضة بين تأييد التيار لبري، وبين سير الأخير بما أراده التيار في الحكومة، وكذلك من جولة لجنة التيار الوطني الحر النيابية الأخيرة مع بري وغيره. وهذا يعني أننا سنكون مع جولة جديدة من المواجهات السياسية في شأن القانون العتيد، بعدما رفع حزب الله السقف في اتجاه النسبية الكاملة، ورفضها المستقبل والنائب وليد جنبلاط، ما أدى الى سحبها من التفاوض لمصلحة أفكار بري الجديدة. ويخشى معارضو بري أن يثمر ضغطه في القانون كما أثمر في الحكومة، ولا سيما أنه يعوّل على أكثر من نقطة في سعيه الى تعويم اقتراحه الجديد، ومنها حواره المستجد حول القانون مع تيار المستقبل وحزب الله في اجتماع مشترك. وهذا يشكل تطوراً سياسياً لافتاً في آليات البحث بين هذه القوى، يتعدى الهدف الذي انطلقت من أجله أساساً الاجتماعات المشتركة بين الأطراف الثلاثة، ما أثار أسئلة عن مغزى التنسيق بين هذه الأطراف انتخابياً، في وقت يفترض فيه أن يدافع المستقبل عن القانون الذي اتفق عليه مع القوات اللبنانية. إلا إذا كانت هناك قطب مخفية تحتاج الى مزيد من الوقت لتوضيحها.
الأمر الثاني هو موقف «الموارنة الأقوياء»، بحسب الاصطلاح الذي استخدم إبان اجتماع القيادات المارونية الأربع في بكركي بعد انتخاب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي. فبكركي كانت أول من طرح فكرة البحث عن قانون جديد للانتخاب، وبدأت اللجان والاجتماعات تتكثف تحت هذا العنوان، وجلّ ما توصلت إليه هو المشروع الأرثوذكسي الذي جوبه بحملة رفض واسعة، وتخلى عنه لاحقاً بعض المدافعين عنه. والقيادات المارونية بحثت بدورها في القانون العتيد، لكنها لم تتوصل الى تصور مشترك. فللكتائب مشروعها، ولتيار المردة مشروعه، والقوات وضعت المشروع المختلط بالتوافق مع المستقبل والاشتراكي، والتيار لا يلتقي مع أي منهم، بل لا يزال على موقفه العلني من الأرثوذكسي والنسبية الكاملة.
ورغم مرور أشهر وسنوات، إلا أن القوى المسيحية ظلت على خلاف في رؤيتها للقانون الجديد. ولم يسهم التفاهم بين التيار الوطني والقوات في الاتفاق على قانون واحد، بعد كل الاجتماعات الثنائية والتفصيلية التي عقدت في معراب والرابية وخارجهما، لا بل إن الطرفين ظلّا على مشروعيهما وتفاهماتهما مع حلفائهما، علماً بأن هذه القوى هي التي ترفع دوماً شعار تغيير قانون الانتخاب الذي أصبح أحد أكثر عناوينها حضوراً في أدبياتها قبل الدوحة وبعده.
ومع اقتراب استحقاق الانتخابات، وحتمية البحث عن قانون جديد، يكمن جوهر الاختلاف في الرؤية، بين القوى المسيحية المختلفة حتى الآن، بدليل كثرة الاقتراحات التي تطرحها من دون وجود أي قاعدة اتفاق مشتركة، وبين بري والمستقبل وحزب الله الساعين الى توحيد موقفهم حول قانون جديد، ولو من دون ضمان اعتماده في الانتخابات المقبلة.