تتزاحم الصور في منطقة برج البراجنة. صور على «مدّ» النظر، سدّت ما بقي من مسارب النور في «الضيعة» المكتظّة بأهلها وطلّاب لقمة العيش. كأنّها دلفت من السماء، دفعة واحدة. مرشّحون بالجملة يفردون وجوههم ــ بجدّيتها المعهودة لزوم العلم اللبناني النابت خلفها ــ على جدران البيوت، المرهقة ألوانها، أو «فوق»، معلّقين بين شرايين الكهرباء التي تعجّ بها السماء.هناك، في «الضيعة»، كما يسمّيها أهلها والمولودون فيها، لم تنفذ «زاموقة» من صور هؤلاء المتسابقين على الخدمة، والذين يزيدون كل يومٍ واحداً. هكذا، كلّما اقترب الوقت من اليوم الموعود، تكبر اللوحة الإعلانية التي صارت عليها البرج.
لكن، على كبر تلك اللوحة، إلا أنّها بقيت ناقصة من وجوه فضّلت خوض معركة الانتخابات البلدية بهدوء، بلا صور وبشعار عاطفي محوره «قلبي»، يقول جمال رحّال، رئيس لائحة «قلبي لبرج البراجنة».
بهذا القلب الذي يحوّق عبارة برج البراجنة، اختار مرشّحو اللائحة خوض المعركة في «التجميعة»، التي ما عادت ضيعة وما استحالت مدينة، في مواجهة لائحة تحالف الأحزاب «تنمية ووفاء». هذه المواجهة، التي كانت واضحة هذه المرّة، حيث صيغت لائحة مكوّنة من 17 مرشّحاً، «انفرط» منها أربعة، في اللحظات الأخيرة، في مقابل «التنمية والوفاء» المكتملة. هذه المرّة، هي «سابقة»، يقولون.
ليست وظيفة البلدية فتح «مجرور» بل توفير الأمن والأمان واتباع سياسة الباب المفتوح
سابقة أن تواجه لائحة، كادت تكون كاملة، لائحة التحالف في «الدار».
فتحت هذه «المرّة» لائحة التساؤلات عمّن هم هؤلاء الواقفون على حافّة المواجهة؟ وما هي دوافعهم؟ ولماذا؟ تلك الأسئلة التي عزّزها أيضاً إعلان لائحة «الغبيري للجميع»، التي تضم 20 مرشّحاً، غالبيتهم من أبناء البلدة الشباب، في مواجهة لائحة التحالف.
وإن كان يحلو للبعض تسميتهم بـ«الإصلاحيين»، ولبعض آخر بـ«المموَّلين والمدسوسين»، يحلو لأصحاب تلك اللوائح تسمية أنفسهم بـ«ولاد البلد»، يقول رحّال من لائحة «قلبي لبرج البراجنة». في رأي الأخير، ليست المواجهة هنا سياسية. هي، ببساطة مفرطة، مواجهة إنمائية. من هذه النقطة، ينطلق الرجل، الذي لا يزال واحداً من «أهل الوفاء لنهج المقاومة»، للحديث عن الأسباب التي دفعته و16 آخرين، بينهم خمس نساء، إلى خوض هذه التجربة، فيقول: «هناك خلط بين مفهومين: المقاومة والتنمية، في شي إسمه إنماء، وفي شي إسمه تنمية، فللسائلين من نحن، نقول: نحن أهل المقاومة وحصنها، ولكن إنمائياً لم يرضَ المتعاقبون على بلدية البرج أهلها من ناحية الخدمات». والخدمات المطلوبة من البلديّة هنا، ليست «فتح مجرور»، ولا كنس الشوارع، فعمل البلدية هو «حياة الناس: أمنهم وأمانهم والراحة وسياسة الباب المفتوح»، مستطرداً بالقول: «أنا رئيس بلديّة يعني ضيعة، يعني الناس، يعني مشّ ريّس ع الناس». من هنا، كانت الانطلاقة في المواجهة. من أمور الناس الحياتية، البعيدة عن السياسة وشعاراتها، وهو ما حاولت دوماً لائحة «قلبي لبرج البراجنة» الإشارة إليه في برنامجها الانتخابي الذي تمحور حول السلامة الغذائية وتعزيز الأمن في المنطقة وتحسين مستوى الطبابة ووضع المياه والكهرباء وتوفير المساحات الخضراء والفسحات... وغيرها من الأمور البديهية، ولكن الأساسية.
هذه الأمور هي صلب حياة الناس. هي «قلب» حياة الناس «الفقراء الذين هم أهل المقاومة أيضاً». يشدّد رحّال على هذه «اللازمة»، التي أراد من خلالها «تذكير الناس دائماً بأنّ المواجهة هي مواجهة إنمائية». هي تعني أنّ «أنا مش ضدّك. أنا حدّك»، كما يقول الشعار الذي تفتتح به اللائحة صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي.
أقصى الطموحات هنا هي الحاجة «للعمل بحرّية من دون غطاء سياسي»، يقول رحال، ففي أحيانٍ كثيرة «قد تقف السياسة عائقاً حتى في الإنماء، وهنا مجتمع المقاومة يجب أن يخدم، بغير الطريقة التي درجت خلال الولايات الثلاث المتعاقبة منذ عام 1998». يبسّط رحال الأمور، فيقول: «كلما خدمت شعب المقاومة أنتجت شباناً واعين، ولمّا المقاومة بتطلبهم بتلاقيهم»، فبالنهاية «الكلّ ملفّح بالأصفر» هنا.
أما ما الذي يمكن أن يقدّمه، فيقول رحّال: «فسحة خضراء يبحث عنها أهالي هذه الضيعة، أو طبيب متجوّل لامرأة عاجزة لا قدرة لها على الانتقال إلى المستشفى ولا طاقة لها على دفع مستحقاتها (...)». أضف إلى ذلك، إعطاء الفرصة «لعائلات لم تمثّل في اللائحة المقابلة، حيث يجري التركيز في الغالب على العائلات التي تأتي بعدد أصوات لا بأس به على حساب عائلات أخرى».
كل هذا، قد لا ينفع في «الصندوق» بعد أيام عدّة، ولكنّ لائحة «قلبي لبرج البراجنة» تعوّل على «قلوب» أبنائها الذين استشفّوا التقصير في جلّ أمورهم المعيشية. هكذا، مثلاً، ستجد من سيلجأ إلى لائحة «قلبي لبرج البراجنة»، لأنه «هلكني الاشتراك، إذ لم يبادر السابقون حتى إلى فرض تسعيرة واضحة على أصحاب المولدات»، يقول علي رحال. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حسين عمّار الذي لم يعد يجد فسحة يأوي إليها بعيداً عن الزواريب المزدحمة، أو مركزاً صحّياً يجد فيه مضادّاً بسعر رمزي. مع ذلك، لا أحد يعرف ما ستحمله «الصندوقة» لهؤلاء، كما لغيرهم من القاطنين في بلدة الغبيري، والباحثين بدورهم عن نهجٍ جديد... إنمائياً. يبحث هؤلاء عن الفسحة، بعدما صارت الغبيري «باركينغ كبير للسيارات»، وعن حال المياه والكهرباء والأرصفة و«الغبيري التحتا المحرومة والفوقا المحظيّة التي تقدم لها الخدمات وحتى الكماليات»، يقول الكثير من المدافعين عن اللائحة في وجه التحالف.
هي معركة إنمائية. لا جدال في ذلك. من هنا وُلدت اللائحة التي ضمّت 20 مرشّحاً «هم أتوا ولم نضغط على أحد، إذ طرحنا نحن الأمر وتركنا لهم حرية المواجهة أو لا»، يقول واصف الحركة. أما لماذا «الغبيري للجميع»؟ فلأنّه «لما يصير صاحب المولّد هو بدو يتحكّم فيي بدي فتّش عن مين يجبلي حقي»، يضيف الحركة.
صار السؤال ملحّاً أكثر، مع إعلان لائحة «تنمية ووفاء»، التي يعتبرها أعضاء لائحة «الغبيري للجميع» أنها «تتمّة للولايات الثلاث السابقة»، فما حدث في هذا الإعلان «هو تغيير الوجوه والأسماء فقط، من دون النهج».
هذا الواقع على «مأسويّته»، إلا أنّه قد يكون «دفشة» للائحة «الغبيري للجميع». يعوّلون على الصورة التي أتت «زي ما هيّي» التي من الممكن أن تدفع الكثيرين إلى التصويت «لمصلحتنا، خصوصاً أننا قبل ستّ سنوات خضنا تجربة مماثلة، وقد حصدنا 32% من الأصوات».
من هم هؤلاء؟ يجيب بعض المقرّبين من التحالف، من دون الكشف عن أسمائهم، بأنّ «هناك مجموعة من الناس أرادت التعبير عن رأيها، لأسباب منها أنها غير راضية عن الوضع الحالي، أو أنها تنتمي إلى عائلات لم تتمثّل في اللائحة الأخرى، أو أنّها ممثّلة ولكن ليست راضية عمّن مثّلها، وبطبيعة الحال لا طاقة للائحة في بلدية كالغبيري مثلاً على تمثيل الجميع، ولهذا قد يحصل هذا الأمر». ثمة أمر آخر يتحدّث به هؤلاء، هو «تحمّس البعض لخوض هذه المعركة بعد موجة الحراكات التي ساعدت في تعزيز هذا الجو، وهذا ما نسميه حالة صحّية في المجتمع». لكن هذه الحالة الصحّية لن تغيّر، ربّما، في قواعد اللعبة، وإن كان «أهل الوفاء» يلمسون في كثير من الأحيان تقصيراً في أبسط الأمور. ففي الصندوق، ستظلّ «تطنّ» في آذانهم عبارة «متل ما هي»، وإن لم تصدقوا، فانظروا إلى الشعارات على الجدران وأعمدة الإنارة في الضاحية، تلك التي تقول: «حيث تريدنا أن نكون سنكون. في الجبهات وفي الساحات وفي مراكز الاقتراع». وعلى هذا، يبني معدّو لوائح التحالف ومناصرون آمالهم.