سمير القنطار شهيداً: الحساب المفتوح | غزة | «خالتي ما تيجي، المسافة كتير بعيدة. المرة هاي قبلت (وافقت) أقابلك، لكن المرة الجاية رح أرفض مقابلتك، لبين ما تزهقي وتبطلي تيجي تقابليني»، تستذكر أم جبر وشاح (87 عاماً) الشاب الأسمر الذي شاهدته يجادل سيدة كبيرة، ويطلب منها عدم زيارته مرة أخرى. نظرت الى ذلك الشاب الأسمر، صاحب الشارب الكثيف الجالس بجوار ابنها جبر في غرفة الاعتقال خلال زيارتها له في سجن نفحة. استهجنت كيف يمكن لهذا الشاب أن يقسو على «خالته»، وهي تتوسل إليه لمقابلتها مرة أخرى. استفزّتها أوامره للسيدة رغم مناداته لها بـ«خالتي». تدخلت السيدة الغزّية، وحاولت تلطيف الأجواء، فاستأذنت السيدة للتحدث مع «الشاب الأسمر» لعلها تقنعه، فقالت له: «يا بني المثل بقول لو ماتت أمك قربز (اجلس) بحضن خالتك، وواضح إنو ما إلك ام، اسمح لخالتك تزورك». طأطأ الشاب رأسه، ناظراً إليها وعيناه تلمعان من الدمع، وقال لها: «أنا لبناني، وهي ليست خالتي الحقيقية. ابنها كان زميلي في السجن وكانت تزورني. اليوم هو حر طليق والمسافة بعيدة عليها لزيارتي».كانت هذه المرة الأولى التي تعرّفت فيها أم جبر إلى الشهيد سمير القنطار، الذي بدا لها قوياً رغم سجنه. نظرت إليه وشعرت بأنه ابن لها، وأنها لن تخاف على ابنها جبر بعد اليوم وهو معه في الأسر. أرادت السيدة تحقيق طلب القنطار بعدم مجيء «الخالة»، لكن بشرط أن تكون هي (أم جبر) أمه بالتبنّي، فوافق. فقالت له «من اليوم ورايح إنت ابني السادس. إنت ابني الكبير، وجبر أخوك الصغير، ورح أجيلك كل ما آجي لجبر»، وهو ما اعتادت أم جبر فعله لمدة 15 عاماً.
هذه الحادثة كانت أول ما خطر في بال الحاجة أم جبر بعد سماعها خبر استشهاد القنطار. انهارت بالبكاء حزناً على «ابنها البكر»، كما تحب أن تناديه، وقالت لـ«الأخبار»: «هو ابني الذي طالما كان عنواناً للرجولة والقوة والتحدي. هو البطل الذي أتغنّى به في كل زمان ومكان». لكن ما يهوّن عليها فاجعتها أن «الشهيد البطل اختار هذه الطريق منذ كان عمره 16 عاماً، وأراد أن يكون بطلاً مقاوماً يعشق المقاومة ويتنشق هواءها، وكان دوماً يردّد لي: إما الموت بطلاً أو العيش حراً بعد أن نطرد الاستعمار».
هكذا، وبمجرد سماع جيران أم جبر وأقاربها نبأ استشهاد القنطار، سارعوا الى منزلها في مخيم البريج، وسط قطاع غزة، لمواساتها في محنتها، ولمشاركتها في «عرس الشهيد»، كما قالت، وهي التي فتحت دار عزاء.
تروي أم جبر ما كان يحدث معها عند زيارة القنطار. في إحدى المرات حاول أحد السجانين السخرية من سمير لتثبيط عزيمته، «لرؤيتي أزوره ولا صلة قرابة بيننا، فقال له: يا قنطار، إذا كنت مفكر إنو أهلك بيوم راح يطلعوك من السجن فما تحلم، لأنك ما راح تطلع ولا حتى ربنا بيقدر يطلعك. أجاب سمير بكل ثقة: ربنا اللي خلقني وكتب لي أن أكون سجيناً، سيكتب لي الحرية وستموت أنت قهراً».
أما شقيقه ورفيقه في الأسر جبر، فإن خبر استشهاده لم يكن مفاجئاً بالنسبة اليه. وقال جبر لـ«الأخبار»: «على الرغم من وقع الصدمة، كنت أعلم تماماً بأنه هدف للاحتلال الإسرائيلي منذ اليوم الأول لتحريره. كان مفعماً بالتفاؤل والحياة والحيوية والأمل، ولا أحد يستطيع أن يتجاوزه كقائد، وكان المعتقلون الجدد يشربون من كأس جرأته».
وعلى الرغم من الظروف السيئة التي عاشها القنطار في سجنه، كان مرحاً ويحب الحياة، وكان يستمع إلى برنامج «خليك في البيت» الذي يقدمه الصحافي اللبناني زاهي وهبي، وينقل جبر أنه بعد انتهاء البرنامج كان سمير يمازحه بالقول «خليك في السجن». أما الصورة المرسومة في رأس جبر لسمير فهو آخر لقاء بينهما: «عندما أفرج عني، كنت أودّعه، فلم أتمالك نفسي وأجهشت بالبكاء بين ذراعيه، ورفضت الخروج بدونه. راح سمير يواسيني ويقول لي شد حيلك، إحنا مكانّا مش هان، مكانّا برّا، وبكرا راح نلتقي كون أكيد». أضاف: «لم تذهب صورته من رأسي عندما كنت أنظر خلفي وهو خلف القضبان، وأنا أسير نحو باب الخروج، وكان يلوّح لي مبتسماً، إلى أن قابلته في لبنان بعد تحريره. ولكن صورته في الزنزانة كانت الأكثر تأثيراً فيي».