لم يكن الداعون الى تظاهرة السبت يتوقعون حشداً كالذي تجمع في وسط بيروت. لذلك، كانت النتيجة المباشرة بعضاً من الزهو، وكثيراً من القلق. وتحديات المرحلة المقبلة تفرض آليات جديدة في التفكير والمقاربة، ثم في العناوين والشعارات، قبل الانتقال الى المهمة الأصعب في تنظيم قيادة جماعية، يرسو في يوم ما رمزٌ على رأسها.
الحراك، هذا ما يجمع الناس على تسميته. صار عنواناً تحت الضوء. ومنذ مساء السبت، وحتى إشعار آخر، سوف يكون محل متابعة: مناصرون سوف يبحثون عن طرق التطوير والتوسع، وينتقدون الثغَر. وخصوم سوف يعملون على ضربه أو خنقه. وفي الحالتين، هناك، من جلس في منزله، متضامناً، أو مؤيداً، أو مناصراً، لكن ما لم يحفزه للنزول الى الشارع خشيته من لعبة الإحباطات التي خبرها اللبنانيون خلال ربع قرن. والأهم، أنه يمكن القول، ببساطة ووعي، إنه مقابل كل متظاهر وجد في وسط بيروت، كان هناك خمسة مثله، يجلسون في المنزل أو يمضون نهارهم على البحر، ما يعني أن الصوت الذي خرج من وسط بيروت، تردد في أرجاء آلاف المنازل المنتشرة في كل لبنان. وهو صوت، من البديهي أن يتسبب بالقلق، لمن يخشى على عقده بالانفراط. فكيف على رؤوس الفساد التي أينعت، وحان وقت قطافها؟
أسئلة كثيرة رافقت نمو الحراك، ستظل مطروحة حتى يستقيم الأمر على صورة أكثر وضوحاً. سوف يظل المؤيدون، قبل المعارضين، يدققون في هوية هذا الناشط، وفي خلفيته، وفي عمله، ومصدر تمويله الفكري أو المالي. وسوف يدققون أكثر في آليات العمل المشترك، وفي كشف المراهقين لإبعادهم، وفي إعلاء شأن من هم فعلاً أهل لقيادة انقلاب في المزاج الشعبي.

الرقابة على الحراك لا تعني
تركه وحيداً وأبناء القطاع العام حليف ضروري لقلب الطاولة

وسوف تبقى الأعين مفتوحة لمنع قوى الفساد أو من يلعب دور الوصيّ عليها، محلياً أو خارجياً، من أن ينفذ بين هؤلاء، بقصد سياسي أو غيره... ألا يحق للناس أن تنظر بقلق إلى مؤسسات إعلامية كبيرة، ظلت على الدوام جزءاً من لعبة المحاصصة، ثم تدّعي اليوم «قيادة الثورة»؟

واجب المساعدة

لكن، ذلك لا يعطل الواجب، على كل واحد منا مساعدة الحراك على مجموعة من الخطوات:
أولاً: عدم إثقاله بالأسئلة الكبرى، إذ ليس من المنطقي توقع إجابات شاملة وحاسمة عند الناشطين أو البارزين بينهم أو حتى عند جمهوره.
ثانياً: المساعدة على الوضوح. والوضوح يعني عدم تكرار لعبة تبويس اللحى اللبنانية. وأن يجري ربط أي اتهام بالفساد لأي جهة أو شخصية بوقائع، وليس من زاوية من يكرر تجربة 6 و6 مكرر بين السياسيين.
ثالثاً: حث هؤلاء على ضرورة الإسراع في وضع رؤية سياسية، تقوم على بند رئيسي، يتمثل في تحويل الشرعية الشعبية النامية الى تمثيل شرعي في مؤسسات الدولة، وهو أمر يرتبط أساساً في خوض انتخابات نيابية مبكرة، ووفق قانون يحفظ حق التمثيل للجميع، وهو قانون النسبية.
رابعاً: حث المعنيين على التعامل بواقعية، من دون التنازل لحظة عن رغبة التغيير أو قوته. والواقعية تقول بأن أهمية الحراك القائم تكمن في تحوله الى قوة توازي بتأثيرها ونفوذها وتمثيلها القوى الكبرى الحاكمة في لبنان، وتحوله الى صاحب حق الفيتو، كما هي بقية القوى الناطقة باسم مصالح كبرى أو طوائف.
خامساً: المساعدة في جعل القاعدة اللاطائفية تتوسع أفقياً، لتشمل في الأساس، مؤسسات القطاع العام لأجل حماية الحق العام. وهو ما يستلزم العمل على إقناع كل العاملين في مؤسسات الدولة، المدنية قبل العسكرية، بالانخراط في هذا الحراك. وفي تجربة هيئة التنسيق النقابية، العام الماضي، ما يعزز الاقتناع بوجود قواعد مشتركة تعني نصف اللبنانيين على الأقل.
سادساً: إن القدرة على حماية الحافزية التي وجدت عند قسم غير قليل من اللبنانيين، لأجل المشاركة في التحركات، تعني القدرة على تقليص الاختلافات الطبيعية بين المشاركين وبين القيّمين على الحراك. وهو أمر يتطلب الإسراع في التوافق على إطار تنسيق يتيح في وقت لاحق تشكل قيادة خاضعة للمحاسبة.

ماذا عن المخاوف؟

من المرغوب فيه أن تزداد المخاوف عند القوى النافذة في السلطة. ومن الجيد، بل العظيم، أن يشعر المسؤولون عن هذه القوى بالقلق على مواقعهم، وعلى شعبيتهم وعلى مصالحهم، بل من الضروري إبقاء هؤلاء في حالة قلق، ولو دفع الأمر بهم نحو خطوات مجنونة بهدف إثارة الذعر بين الناس. ومن المنطقي أن يجري التعجيل بإفراغ سلة الفاسدين من كل خياراتهم.

الانتخابات النيابية وفق
النسبية تجعل الحراك شريكا كاملا في القرار والمحاسبة


أمر غير سلبي أن يبقى السجال اللبناني قائماً حول من يقف خلف الحراك، وأن يتبادل فريقا 8 و14 آذار التهم بالعمل خلف الستارة. وكلما استمر السجال دون نتيجة، «زمط» الحراك من أبشع لعب الاستقطاب. وفي هذه الحالة، لا يجب هدر الوقت في الحديث عن مندسين وما شابه، ولا عن أطفال ينشطون على صفحات التواصل في سياق زج أحلامهم الغابرة ضمن شعارات التحرك، لأن الحركة الصحيحة التي تكسب رضى الجمهور هي التي تقول الأشياء الصحيحة، والتي لا تخشى رفع الصوت مباشرة بوجه من يتحمل المسؤولية عن خراب البلاد.
لكن الأهم، هو أن الحراك أحدث هزة أرضية، ربما ليست من النوع الكبير جداً، لكنها هزة، فعلت فعلها، في القواعد الاجتماعية لغالبية القوى الكبرى القابضة على روح البلاد. وهي الهزة التي تدفع الجمهور المختبئ خلف جدران الطوائف والمناطق للخروج، ولو لتجرب حظها خارج الأطر التافهة. ومجرد حصول ذلك، يعطينا إشارة إلى أن الاصطفاف القائم هو اصطفاف فيه تزييف كبير، وهو زيف يريد الفاسدون إقناعنا بأنه أبدي.