توجه إلي رجل الأمن الأول وقال«هل معك شيء حاد أو أسلحة في هذه الحقائب؟». أجبت بـ«لا»، وبقيت أراقبه. لا بد أنه شعر بأن هناك خطباً ما، فجوابي جاء سريعاً وحركاتي كشفت عدم ارتياحي من الموقف. دَوّن شيئاً ما في ورقة في يده ثم سأل: هل ساعدك أحدهم على حزم الحقائب؟ «لا!» قلت. «أتعرف لمَ أسأل؟»، لم ينتظر جوابي وأردف «عسى أن أحداً وضع شيئاً في حقيبتك من غير علمك».
كشفني وحسم أمري! لا بد أنه يعرف كل شيء. كان يسأل ويترصد أصغر حركاتي بكل ما اكتسبَ من مهارة وخبرة في قراءة أجساد المسافرين. «هل أعطاك أحدهم غرضاً ما لتنقله الى شخص يسكن خارج البلاد؟» لم يعد مجال للشك، لا مفر، سيقبض عليّ بعد قليل، أومأت نافياً منتظراً مصيري. ألصَقَ ورقة على حقيبتي وأطلق سراحي!
حينها فقط، وبفضل أخينا رجل الأمن الإسرائيلي، اقتنعت أكثر بأني لست مقبلاً على أي عمل تخريبي أو إرهابي في ذلك اليوم. وأنه لربما، لربما.. لا تختلف نياتي عن كل هؤلاء السياح من حولي في مطار بن غوريون الدولي. شكرته وواصلت طريقي.
صادف يومها ذكرى النكبة. عندما تسافر في يوم النكبة خارج البلاد، سوف تترك فلسطين مشحوناً بمنظر المصابين في مظاهرات ذلك اليوم وتخرج محمّلاً على الأقل بـ1948 ستاتوس قرأته في الـ24 ساعة الاخيرة عن أرض سلبت، عن لاجئ ما زال ينتظر عودته، وعن تخيلات بأن سرديتنا لم تتوقف في العام نفسه الذي أصبح اسماً ثانياً لشعبنا (48) وعلامة رسوبنا، حينها، عليك أن تمر بأحد أبرز نجاحات الاحتلال على أرضك: مطار بن غوريون الأبيض الناصع اللامع الوهاج، هناك لا يحبون العرب.
فأحد أهم نجاحات الاحتلال هو أنه يقنعك بأنك مذنب مهما كانت ظروفك، وما أشد وضوح هذه الظاهرة في مطار بن غوريون. كأن هناك تهمة تلازمك ولا مفر منها أينما تخطو «أنك عربي». في كل مرة لا يصطفيني فيها رجل الأمن من بين الجموع الوافدة أشعر بأنني نجحت في خداعه، أنني أجدت تمثيل دور «مجرد مسافر» ولم يكشفني، لم يعرف أنني.. عربي.
حين تكون مناسبة وطنية فلسطينية معينة أو أحداث تعمّ البلاد مثل يوم النكبة، فلا بد أن المطار سيكون في حالة استنفار، وكل مسافر عربي سيمر بكل مراحل التفتيش.
بعد أن تخطّيت المرحلة الأولى، انتقلت الى المرحلة الثانية (تفتيش دقيق للحقيبة الكبيرة) فتحت هاتفي لأقرأ الأخبار، تقدمت صوبي حسناء بزيّ كحلي. «هل كنت تصور؟». سألت «ماذا؟»، قالت «هل كنت تصور للتو عبر هاتفك؟»، أجبت «لا كنت أقرأ». قالت «أسألك لأنه ممنوع التصوير هنا». قلت «أعلم».
ذهبت والشك يملأ قلبها (وقلبي طبعاً) في أني كنت حقاً أصوّر!
لقد علمت بأن انتظاري سيطول. وبعد أن مررت المرحلة الأولى بسلام، قررت أن لا ضير في تجربة أنتروبولوجية تسليني وتكسر نمطية نساء الأمن. ناديتها فعادت أدراجها. «عندي سؤال. هناك العديد ممن ينظرون في هواتفهم في هذه اللحظة، هل اخترتني لأنني عربي؟» صمتت، نظرت إلي تائهة وبهتت محرجةً، أشفقت عليها للحظة، أردت أن أضمّها وأهدّئ من روعها الأوروبي.
«أنت تتقدم بسرعة. ألا تتقدم بسرعة؟» ما معنى هذه الجملة الغريبة؟ فضلاً عن أنها قد قذفتها وولّت غير مكترثة لاستفهامي! حينها تأكدت أن لعبتي/تجربتي الأنتروبولوجية رائعة، ولا بد أن أواصل. رحت أسأل وبعيني طفلٍ بريء كل من يفتشني ويسألني «عذراً هل تجري هذا التفتيش لكوني عربي؟» (أردت أن أقول فلسطيني، لكن حرف «الفاء» يعتبر لفظاً نابياً لا يتجرأ أحد على لفظه في مطار بن غوريون، فمجرد لفظه هو فعل مقاومة).
كان هناك من تجاهلن سؤالي لأنهن لم تحضرن درس «كيف تتعامل مع عربي يعرف أننا عنصريون»، لكن أغلبيتهن كن يُجبن بتصريحات عجزت عن فكّ طلاسمها، «هذا إجراء بسيط» أو «نساعدك لتتقدم».. لم أفهم كيف لهذه التصريحات أن تجيب عن أسئلتي، إلا أن الشخصية التي تقمصتها كانت متفهمة جداً!
في التفتيش الثاني وقفت أمامي راهبة من عرق لا يمكن حتى لهتلر أن يتبيّنه، ما يجعلك تتساءل كيف وصلت قصص عن رجل يهودي اسمه يسوع الى حيث تقبع!
كان رجل الأمن يأمرها بأن تتقدم وتعود عبر آلة كشف المعادن: «تقدمي.. تقدمي.. لا لا عودي الآن، عودي!». أغاظني، فخرجت عن شخصيتي وقلت له «قل لها: من فضلك، لا داعي لهذا التعامل». انكمش وجهه، وهزّ رأسه موافقاً! وقال للراهبة «بإمكانك أن تذهبي من فضلك». فوجئت من إذعانه لكلامي، وكأنني نبّهته إلى أمر نسيه منذ زمن.
ماذا يتوقع من شباب خدموا في صفوف جيش يتعامل مع الاحتلال كإجراء طبيعي واضطراري، ثم أُخذوا من حواجز عسكرية وعيّنوا هنا ليتعاملوا مع «بشر»؟ كيف عساه يفطن لكلمة «من فضلك» أو «شكراً»؟
في مرحلة التفتيش الأخيرة، وهي نقطة التقاء الشباب الفلسطيني من الداخل، حيث يجري تفتيش كل رباط حذاء، وقف إلى جانبي شرطي عربي يخدم في الشرطة الإسرائيلية. كان ممتعضاً ومستاءً يلوّح ببطاقة الشرطة خاصته ويتأفّف. نظرت إليه مبتسماً وشامتاً فأدار وجهه، فتوجهتُ الى سيدة التفتيش المضطربة وسألتها «عفواً هل تعاملينه هكذا لأنه عربي؟».
صمت الجميع وتوقف الوقت، وبقيت راسماً ابتسامة بلهاء على وجهي ليس باستطاعة بن غوريون، وهو من زعم أنه «فهم العرب»، أن يحللها.
حين أصعد الى الطائرة أنسى العبرية وأتكلم الإنجليزية فقط. آخذ إجازة من اللغة. جلست إلى جانب رجلين يلبسان بدلات أنيقة، ويعتمران «الكيبا» ويتكلمان عن المجوهرات.
بدأ تقديم وجبات الطعام. الشخصان الى جانبي طلبا وجبة كوشر (أي حلال باليهودي) وتسلما وجبتيهما. لا أحب أكل الطائرة ولم أكن جوعاناً، لكنني طلبت وجبة كوشر بدافع السفاهة المطلقة.
اقتربت مني المضيفة وهمست «سيدي كان عليك أن تطلب عبر موقعنا لتحصل على وجبة كوشر». سمع جاري تاجر المجوهرات المعتمر للكيبا حديثنا، فهبّ لنجدتي «أليس عندكم وجبات كوشر إضافية؟»، قاطعته محاولاً التهرب من الموضوع، ومتذرعاً بأنني لا أريد أن آكل، إلا أن جاري «الشهم» واصل «من غير المعقول أن لا وجبات إضافية عندكم. هذا الشاب اللطيف نسي أن يطلب وجبة «كوشر» ماذا يفعل؟ هل يأكل وجبة عادية أم يبقى جوعاناً؟». بعد لحظات من النقاش بين المضيفة وجاري، تمنيت خلاله أن أفك حزامي وأمرّ بين إحراجي وإحراج المضيفة وأقفز من الطائرة، اعترفت المضيفة أخيراً «لا تقلق يا سيدي هناك وجبة إضافية بالصدفة».
رائع إذن! سأحصل على وجبتي «الكوشر»! شكرتها وشكرت الرجل على «مروءته ونبله»، وتناولنا وجبات الكوشر فرحين.
لا يسعني إلا أن أعترف بأنني في تلك اللحظة شعرت بأنني يهودي، وأن الشعور بأنك يهودي هو ...شعور آخر، شعور مختلف.