عين الحلوة | طيب، اعطيته رقم الترخيص الخاص بي وبعد التدقيق سمحوا لي بالدخول إلى مخيم عين الحلوة. ما ان تجتاز الحاجز، حتى يصبح كل شيء مختلفا عما قبله؛ شوارع صيدا التي تشعرك بالنبذ، تنقلب هنا إلى احساس بالحميمية: مشهد الناس المزدحم، اصحاب المحال التجارية امامها يتبادلون الأحاديث التي ربما لا تخلو من النميمة، خصوصاً تلك التي يتبعها الضحك. كانت هذه المشاهد هي نفسها التي اعتدت رؤيتها في مخيمي «اليرموك». قبل عين الحلوة، ظننت ان المخيمات في لبنان كلها كمخيمات بيروت، تقتصر على الزواريب، لكن هذا المخيم يختلف عنها جميعاً.
ففيه شارعان عريضان «الفوقاني والتحتاني»، ذكّراني بشارعي مخيم اليرموك الرئيسين «فلسطين واليرموك»، كما هناك شوارع فرعية تصل بينهما، كشارع السوق الذي يتوسط المخيم ويمتد لمسافة طويلة، وقد اجبرني الزحام فيه على التأني بالسير ومنحني فرصة للانتباه كيف رُصّت دكاكينه قرب بعضها البعض كأحجار الفسيفساء الملونة؛ دكان لبيع الألبسة يليه دكان لبيع الخضر وبعده دكان لبيع الأدوات المنزلية، يتوسط الشارع الكثير من عربات الخضر التي شاركت البسطات في اقتسام مساحة السوق وجعلت الممرات ضيقة للمتسوقين، وبينما كان الجميع يسير بينها كمن يحفظها عن ظهر قلب، كنت انا الوحيد الذي ينظر على الدوام أين تخطو قدماه في هذا الزحام.
كان لمخيم عين الحلوة النصيب الأكبر من نازحي اليرموك. شوارع عين الحلوة عبقت برائحة المخيم السوري، الكثير من الوجوه مألوفة لي، ومنذ اليوم الأول التقيت بالكثيرين منهم هنا، كل واحد كان يدلني على آخر ويروي لي قصة خروجه من اليرموك ومعاناته في الوصول إلى هنا. مهران، شاب من اليرموك يسكن هنا، لم يعجبه كلامي عندما قلت له اني اشعر نفسي في اليرموك، رد معترضاً «ما في شي هون بيشبهو». يتابع بحسرة من اتعبه الاشتياق «كل شي هون غير. الشوارع غير. البيوت غير. حتى الهوا غير!». في لحظة، اكتشفت ان كلامه صحيح، فلاشيء يعوض خسارتنا. جميعنا خسر كل شيء هناك، منازلنا، شمل عائلاتنا، اصدقاءنا وجيراننا، ليس هذا فحسب، خسر مهران ايضاً جلساته المسائية مع الأصدقاء في الحارة وتدخين «الأركيلة» مع كوب الشاي، تماما ًمثل تلك التي يجلسها الشباب في شوارع عين الحلوة، وخسر غيرها الكثير من الاشياء البسيطة التي اعتاد القيام بها في مخيمه، لم يبق له منها سوى فيض ذكريات.
أما ابو حسين، وهو رب اسرة؛ فخسارته اكبر. لقد خسر، الى المنزل والعمل، قدرته على اعالة عائلته في هذا المخيم المثقل اساساً بالظروف الصعبة التي يعيشها ابناؤه. يخبّئ وجهه بكفيه وقد غلبه الشوق قائلا «آآآآه على ايام اليرموك».
ربما تتشابه الأشياء في المخيمات، لكن يبقى لكل مخيم فلسطيني طابعه الخاص. كنت اسير وحدي ليلاً متنقلا بين بيوت الأصدقاء في عين الحلوة يتملكني مثل، مهران وابو حسين، شعور غامر بالفقد. بعد منتصف الليل بقليل، الشوارع شبه خالية إلا من بعض الشبان وعناصر الحراسات الخاصة بمقار الفصائل الفلسطينية، الحركة جد هادئة لدرجة اني كنت اسمع صوت خطواتي. في مثل هذا الوقت، كان اليرموك عامراً بالحركة: المحال مفتوحة والمقاهي مليئة بالرواد.
عين الحلوة تريد النوم اما انا، فأتمشى وحيداً وعبارة واحدة تتردد في قلبي «آآآه على ايام اليرموك».