رغم مرور قرابة العشرة أشهر من الدعم الأميركي العسكري والديبلوماسي شبه المطلق لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، وما يقابل ذلك من إخفاق إسرائيلي في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، لا يزال يصر رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على رفع سقف التحدّي مع الرئيس الأميركي، جو بايدن. والظاهر أن نتنياهو يعتقد أن ما لم يتحقق بذلك الدعم، يمكن أن يُنجز بالإلحاح على المزيد منه، وفقاً لما جلّاه، في الأيام الماضية، تحوّل خطوة حجب البيت الأبيض توريد شحنة من القنابل الثقيلة إلى تل أبيب، إلى مادة للتنازع العلني بين الطرفين. ويأتي هذا في وقت يستعد فيه زعيم «الليكود» لإلقاء كلمة أمام الكونغرس الأميركي، في الـ24 من الشهر المقبل، بناء على دعوة «عابرة للأحزاب»، وجهها إليه كل من زعيم الغالبية «الديموقراطية» في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، ورئيس مجلس النواب، «الجمهوري» مايك جونسون، إضافة إلى زعيم «الجمهوريين» في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، وزعيم «الديموقراطيين» في مجلس النواب، حكيم جيفريز.
بايدن بوجه نتنياهو: خطوط حمراء مع وقف التنفيذ
يجزم محللون غربيون أن مواقف نتنياهو الأخيرة، أرست مستوى جديداً من انحدار العلاقات الأميركية الإسرائيلية، خصوصاً مع ترسّخ قناعة «الإدارة الديموقراطية»، شيئاً فشيئاً، برهانات نتنياهو على عودة «الجمهوريين» إلى البيت الأبيض، وتطلعه إلى تجاوز «مقترح بايدن» في شأن غزة، على أمل إطالة أمد الحرب في القطاع، وربما توسيعها في اتجاه لبنان. ولذا، كان الرئيس الأميركي، أخيراً، يرسل تباعاً إشارات حول مدى استيائه من أداء نتنياهو، ومن جملتها إلغاء اجتماع أميركي - إسرائيلي إستراتيجي رفيع المستوى حول إيران، قبل الاكتفاء بانعقاده وإن على مستويات أمنية وديبلوماسية أدنى، ثم عدم إعطاء موعد محدّد حتى الساعة للقاء نتنياهو في زيارته المرتقبة إلى واشنطن، وإن كان امتعاض بايدن لم يرقَ بعد إلى مستويات تتجاوز حجز «الشحنة اليتيمة» من القنابل الثقيلة.
من المتوقع أن تشهد كلمة نتنياهو مقاطعة من جانب المشرعين «الديموقراطيين» المحسوبين على «التيار التقدمي»


وتتساءل صحيفة «نيويورك تايمز» عن «السبب الذي لا يجعل نتنياهو يأخذ (مواقف) بايدن على محمل الجد؟»، معتبرة أن تصاعد نبرة الأخير تجاه الأول خلال الأشهر الماضية، سواء عبر وقف شحنة القنابل المذكورة، أو عبر الاستمرار في دعوة الجانب الإسرائيلي إلى عدم غزو مدينة رفح، والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، «أوحت بوجود استعداد لدى بايدن، وإن جاء متأخراً، للوقوف في وجه نتنياهو وتجنب وقوع كارثة إنسانية في رفح». لكن الصحيفة تشير إلى أن الرئيس الأميركي «سمح لنتنياهو بالتغلب عليه مرة أخرى»، حين لم يحرك ساكناً إزاء اجتياح القوات الإسرائيلية للمدينة، ومواصلة عرقلة الوصول للإمدادات الإغاثية إلى سكان القطاع، معتبرة أنّ «سياسة بايدن في غزة ساعدت نتنياهو في البقاء في السلطة». وتذكّر بأنّ الديبلوماسية يُفترض أن تُبنى على خيارات تراوح بين العصا والجزرة، مؤكدة أنّ «نتنياهو لم يأخذ بايدن على محمل الجد، لأن الأخير يتحدث معه غالباً بنبرة هادئة، ولا يأخذ في الحسبان إلا تقديم المزيد من الجزرات له». وتتهكّم على هذا الأداء بالقول: «بعد أن تم تجاهل الخطوط الحمراء والوردية التي سبق أن أرساها بايدن، ما الذي يخطط له الرئيس الأميركي بعد ذلك؟»، داعية الأخير إلى أن «يُدرك أن سياسته في غزة هي فشل أخلاقي وعملي على المستوى السياسي، ذلك أنّه لم يساعد أحداً سوى نتنياهو». وترى أنّ «الطريقة التي يظهر بها بايدن ضعفه أمام نتنياهو تحدّ من نفوذه على الأخير»، متسائلة: «إذا كان خجولاً جداً، إلى الحد الذي يجعله لا يقوى على مواجهة حليف يعتمد على الأسلحة الأميركية، فما السبب الذي يجعلنا نعتقد أنه سيواجه منافساً (إستراتيجياً) من مثل الصين أو روسيا؟». وفي هذا الصدد أيضاً، يعتقد جيريمي كونينديك، وهو مسؤول أميركي سابق، ورئيس «منظمة اللاجئين الدولية»، أنّ «ما أظهره بايدن لنتنياهو مراراً وتكراراً هو أنه بصدد التلويح بإصبعه، من دون إرفاق ذلك التلويح بخطوات زجرية ملموسة».

هواجس البيت الأبيض تجاه خطاب نتنياهو
بحسب مراقبين، فإن البيت الأبيض يتوجس من خطاب نتنياهو القادم أمام الكونغرس، بمجلسيه، بالنظر إلى أن لجوء الأخير إلى نبرة تصعيدية ضد بايدن، وتحديداً بخصوص ملف شحنة الأسلحة المعلّقة من جانب البيت الأبيض، من شأنه أن يرتّب مشهداً معقداً، ومحفوفاً بالمخاطر، في موسم انتخابي محتدم داخل الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، ينقل موقع «بوليتيكو» عن مسؤولين أميركيين، عدم استبعادهم فكرة أن يحدد بايدن موعداً للقاء نتنياهو في واشنطن، في ضوء عدم رغبته في توبيخ رئيس الحكومة الإسرائيلية في العلن، معتبرين أنّ عدم عقد مثل هذا اللقاء بينهما «سيُعدّ بمنزلة صفعة مؤلمة على وجه (نتنياهو)». وأشار مسؤول أميركي رفيع، في حديث إلى الموقع، إلى أنّ انتقادات نتنياهو العلنية لبايدن «لم تحمل أي وجه فائدة على الإطلاق (لبايدن)»، محذّراً من أن «الإدلاء بتصريحات مماثلة أمام الكونغرس ستكون مفاعيله أسوأ» في هذا الخصوص. ويورد «بوليتيكو»، نقلاً عن مصادر في إدارة بايدن، أن «نتنياهو سيستخدم خطاب الكونغرس لمخاطبة جمهوره في الداخل الإسرائيلي، وداخل الولايات المتحدة، على حد سواء»، مرجّحاً أن يبادر الرجل إلى «الإعراب عن امتنانه لمساعدة الولايات المتحدة، وتأكيد متانة التحالف الطويل الأمد بين البلدين، في موازاة مطالبته بالمزيد من المساعدات (العسكرية) غير المشروطة». ويلفت إلى أنّ «الديموقراطيين داخل الكونغرس سيقابلون الخطاب المرتقب لنتنياهو بفتور».
وقبيل حلول موعد إلقاء نتنياهو كلمته تحت قبة المؤسسة التشريعية الأميركية، تتصاعد الأصوات المعارضة له داخل إسرائيل والولايات المتحدة على السواء. فمن المتوقع أن تشهد تلك الكلمة مقاطعة واسعة من جانب المشرعين «الديموقراطيين»، خاصة أولئك المحسوبين على «التيار التقدمي» في الحزب، ومن أبرزهم النائب عن ولاية إنديانا، أندريه كارسون، والسيناتور عن ولاية ماساشوستس، إليزابيث وارن. ويأتي إبداء الرغبة من جانب هؤلاء في مقاطعة الخطاب، في ظل اعتراضات متزايدة على الاستقبال المزمع لنتنياهو، حتى من قبل عدد من الأكاديميين والمسؤولين الإسرائيليين السابقين، من بينهم المدير السابق للموساد، تامير باردو، ورئيس «أكاديمية إسرائيل للعلوم والإنسانيات»، ديفيد هرئيل، ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، والمديرة السابقة لقسم المهمات الخاصة في مكتب المدعي العام الإسرائيلي، تاليا ساسون، وآخرين. ففي مقالة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز»، فنّد هؤلاء سلسلة واسعة من سياسات نتنياهو، سواء في ما يتعلق منها بالحرب على غزة، وملف استعادة الأسرى لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، أو ما يتعلق منها بملفات أمنية وقضائية في داخل كيان الاحتلال، معتبرين أنّ «إخفاق نتنياهو في التوصل إلى خطة لوقف الحرب في غزة، وتحرير العشرات من الأسرى، يعزّز الاعتقاد بأن الرجل يدفع إسرائيل إلى الهاوية بسرعة رهيبة». ورأى مؤلفو المقالة أنّ دعوة نتنياهو إلى إلقاء كلمة في الكونغرس الأميركي، كان يجب أن تكون مشروطة بموافقته على سلة مطالب، وفي مقدمتها إجراء انتخابات نيابية. كما رأوا أنّ «خطاب نتنياهو المرتقب أمام الكونغرس، يتلاءم مع احتياجاته السياسية» في الداخل، مرجّحين أن يكون الأمر «محبوكاً بعناية على نحو يساعده في تعزيز قبضته المرتجفة على السلطة، والسماح بالتباهي أمام ناخبيه بالدعم الأميركي لسياساته الفاشلة».