في وقت تُخاض فيه الصراعات لرسم الخارطة الجيوسياسية والاستراتيجية في العالم، وتحديداً الشرق الأوسط، وتقاسم النفوذ بين الأقطاب الرئيسية فيها، يبدو أن القيادة السعودية ليست مستعجلة لرمي أوراقها في سلّة واحدة، قبل أن يكتمل المشهد، خصوصاً بعد فشل المشروع الأميركي في المنطقة، والمتمثّل في التطبيع السعودي - الإسرائيلي، وعجز العدو عن تحقيق أهداف حربه على قطاع غزة. وعليه، تنتهج الرياض مساراً حذراً في مقاربة القضايا الساخنة، وتتعمّد مد الجسور مع جميع الأطراف، بما فيها تلك التي كانت تناصبها العداء حتى الأمس القريب، إلى حين وضوح الرؤية بشكل نهائي. فالسعودية، المرهقة من الصراع مع اليمن إلى درجة أنها تبذل كل ما في وسعها للخروج من رماله، ورفضت الانضمام إلى العمليات التي تقودها الولايات المتحدة ضد حركة «أنصار الله» في البحرين العربي والأحمر، وغامرت بترك الأساطيل الأميركية بلا مساعدة مباشرة منها، في قرار غير مسبوق، لا يظهر أنها حاضرة للتضحية بهذه الوضعية المريحة التي تعطيها ميّزات أكبر من تلك التي ستعطيها إياها مشاركتها في العدوان على اليمن. وفي المقابل، تعتبر صنعاء أن المملكة مسؤولة عن تطبيق الاتفاقات الموقّعة بين الطرفين، ومعها جرت المفاوضات التي أوصلت إلى الهدنة الممدّدة، وأي خروج عن مندرجاتها يحتّم على الأخيرة تحمّل العواقب. وعلى رغم تفهّم "أنصار الله" حتى الآن عدم قدرة السعودية على إكمال مسار السلام، بسبب ربطه أميركياً بوقف الحركة استهداف السفن الإسرائيلية والأميركية والبريطانية، إلا أنها لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء القرارات الأحادية الاستفزازية من جانب الأطراف المحليين التابعين للتحالف السعودي - الإماراتي في عدن.
تعتبر صنعاء المملكة مسؤولة عن تطبيق الاتفاقات بين الطرفين وتتحمّل عواقب الخروج منها


ووفق هذه المعادلة، حذّر قائد «أنصار الله»، السيد عبد الملك الحوثي، من مخطّط أميركي لجرّ السعودية إلى عدوان اقتصادي على اليمن، بعد قرار البنك المركزي في عدن وقف التعامل مع البنوك التي تعمل في المناطق الخاضعة لسيطرة صنعاء. وعلى رغم أن قيادة "المجلس الرئاسي" في عدن، والتي تقف خلف تلك القرارات، أقرب إلى واشنطن منها إلى الرياض، إلا أن التحذير مرده أن المملكة تحوز الكثير من أوراق الضغط على الحلفاء الذين لا يملكون القدرة على الرفض أو المناورة إزاءها، حتى لو أدى ذلك إلى تعارض مع الطلبات الأميركية. والظاهر أن السعودية أدركت خطورة التصعيد مع اليمن في هذا الظرف، فاستدعى وزير دفاعها، خالد بن سلمان، وهو مسؤول ملف اليمن، رئيس «المجلس الرئاسي»، رشاد العليمي، إلى الرياض ليبلغه بدعم بلاده للجهود المبذولة لإحلال السلام في اليمن، انطلاقاً من خارطة الطريق الأممية، وصولاً إلى حل سياسي شامل. وعقب اللقاء بساعات، أعلنت سلطة العليمي استئناف الرحلات الجوية بين صنعاء والأردن والتي كانت قد توقّفت منذ مطلع الشهر الجاري. وبدورها، ذكرت مصادر صحافية محلية في وزارة المالية التابعة لحكومة عدن، أن اللقاء تضمّن توجيهات سعودية بتجميد القرارات التصعيدية لـ«مركزي عدن»، والتي كان قد أعلنها محافظ البنك، أحمد أحمد غالب، أخيراً. وتوقّعت المصادر أن يكتفي «المركزي» بوقف العمل بالقرار من دون الإعلان عن ذلك.
وظهر، في الأسابيع الأخيرة، أن الجناح المحسوب على واشنطن في سلطات عدن، ولا سيما العليمي ورئيس الحكومة، أحمد بن مبارك، قرّر التصعيد ضد حكومة الإنقاذ في صنعاء، والتملّص من مندرجات الهدنة الممدّدة بشكل غير رسمي، وإنهاء مفاعيلها من طرف واحد. وتمثّل أبرز القرارات التي اتخذها «مركزي عدن»، في نقل مراكز المصارف من صنعاء إلى عدن، بما يشمل المراكز الرئيسية للبنوك التجارية والمصارف الإسلامية وبنوك التمويل الأصغر المحلية والأجنبية والتي يقدّر عددها بـ14 مركزاً، وكذلك وقف التعامل بالعملة القديمة المتداولة في مناطق سيطرة "أنصار الله". كما قرّرت حكومة عدن توقّف الرحلات الجوية بين صنعاء وعمّان، الوجهة الوحيدة المسموح بها وفق مندرجات الهدنة، فيما عُلم أن حكومة ابن مبارك كانت تتحضّر للمزيد من القرارات الأحادية التي ستشكّل، في حال صدورها، تحدياً لصنعاء، التي وضعت تلك الخطوات في سياق سياسة اقتصادية ممنهجة لضرب ما تبقّى من الاقتصاد في البلد، بعد الفشل الميداني الأميركي - البريطاني في رفع الحصار البحري الجزئي عن الكيان الإسرائيلي.
ويهدف الأطراف المحليون، من قرار نقل مراكز المصارف إلى عدن، إلى السيطرة على مجموعة إيرادات البلد من النقد الأجنبي، وتشديد الخناق على التمويلات التي تقوم بها البنوك التجارية، وفقاً لرغبة واشنطن. ويأتي هذا في إطار تشديد الحصار على صنعاء والتلاعب بسعر صرف الدولار، كما هو الحال في المناطق التابعة للتحالف السعودي - الإماراتي. ومهّد ابن مبارك لتلك القرارات، منذ تولّيه منصبه في شباط الماضي، بسلسلة تصريحات أعرب فيها عن معارضته الاتفاق بين "أنصار الله" والسعودية، معتبراً تعثّر مفاوضات السلام بين الجانبين فرصة للتملّص من هذه الاتفاقات، باعتبار أن «الشرعية» ليست طرفاً رئيسياً فيها.