تزداد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تعقيداً، فيما تضيق الخيارات لتنحصر ما بين استمرارها بما يفضي إلى استنزاف لا طائل منه لكيان الاحتلال، وبين إنهائها بما يعادل الهزيمة لهذا الأخير، وكلا الخيارين سيئ لإسرائيل. وفي موازاة التعقيدات المشار إليها، جاءت «مجزرة الخيام» في رفح، لتدفع، وفقاً للتقديرات الراجحة، في اتّجاه عقد جولة جديدة من المفاوضات، تستهدف هذه المرة التوصل إلى هدنة مؤقتة، في ظلّ رهان إسرائيل على الجانب الأميركي، لوقف الاندفاعة الدولية ضدّها، وتحديداً الإجراءات غير المسبوقة في المحافل الدولية، واتجاه عدد من الدول الأوروبية لمعاقبة تل أبيب عبر الاعتراف بالدولة الفلسطينية.لكن، هل تصدق هذه التقديرات؟ ثمة تجاذب في كيان الاحتلال إزاء ما سيلي، ليس على خلفية المجزرة وصداها في وسائل الإعلام العالمية فحسب - وهو ما من شأنه أن يحدث مزيداً من الضرر لصورة إسرائيل ومكانتها -، بل بفعل انسداد أفق الحرب نفسها، بعدما تحوّلت إلى معركة استنزاف بلا أفق وبلا أهداف. وكما يرد في الإعلام العبري، يزداد عدد المسؤولين في المؤسسة الأمنية الذين هم على قناعة بأن إسرائيل وصلت بالفعل إلى نقطة حاسمة في حربها على غزة، وصار عليها أن تتّخذ قرارها الآن: اتفاق رهائن يشمل إنهاء الحرب، أو استمرار هذه الأخيرة حتى تحقيق أهدافها، غير القابلة للتحقُّق أصلاً. وبحسب هؤلاء المسؤولين، «ليس هناك خيار وسطي بين الخيارَين».
وإلى ما قبل «مجزرة الخيام»، كان التقدير السائد في تل أبيب أن لدى الأخيرة رافعة ضغط ميدانية وسياسية للتأثير في موقف المقاومة الفلسطينية ودفعها إلى التراجع عما تطلبه من أثمان في اتفاق تبادل الأسرى. غير أنها فوّتت على نفسها الرافعة المتمثّلة في التهديد بعملية برّية في رفح، عبر اندفاعها إلى تنفيذ العملية التي تراكمت خسائرها سريعاً، واستجلبت فوراً ضغوطاً دولية، أضعفت موقف الاحتلال. ووفقاً للتقديرات في إسرائيل، فإن المقاومة الفلسطينية، وفي مقدّمتها حركة «حماس»، لا تستشعر حاجة إلى الاستعجال في المفاوضات، وهي تبدي موقفاً متشدّداً أكثر من ذي قبل، و«بخلاف مسألة عدد الرهائن الأحياء الذين ينبغي إطلاق سراحهم في اتفاق تبادل الأسرى في المرحلة الأولى، وهي المرحلة الإنسانية، لم تتزحزح حماس عن مطلبها الرئيسي، وهو الالتزام الجدير بالثقة بإنهاء الحرب كشرط لإطلاق سراح الأسرى»، كما يرد في تلك التقديرات.

نتنياهو يماطل؟
كان التقدير السائد في تل أبيب، عشية الحرب، هو أن الجيش الإسرائيلي قادر على إزالة حكم «حماس» والحركة نفسها، وإيجاد شروط أمثل لإطلاق سراح الأسرى، إمّا عبر العملية العسكرية نفسها، وإمّا بسببها. كما كان يُفترض أن تنتهي الحرب في غضون شهرين أو ثلاثة على أبعد تقدير، لتتحوّل، في مرحلتها الثالثة، إلى قتال من بعد وتوغّلات، لمنع إعادة إحياء المقاومة الفلسطينية نفسها. وفي هذا الإطار، تتحدث الاستخبارات الأميركية عن أن الحرب قضت على 30% من مقاتلي «حماس»، ولكن قدرة الترميم وإعادة التجنيد لدى هذه الأخيرة أعلى بكثير من قدرة القتل الإسرائيلية، ما يعني أن الحرب زادت عدد المقاومين، وليس العكس. وهكذا، وضع صمود المقاومة، إسرائيل، في مأزق، بخاصّة أن أهداف الحرب مرتبطة بهزم الوعي الفلسطيني، وتحديداً وعي القيادة الميدانية في غزة، أكثر من ارتباطها بهزيمة ميدانية على الطريقة الكلاسيكية.
أمّا بخصوص اليوم الذي يلي، فقد كان الافتراض أن تستلم جهات فلسطينية غير مرتبطة بالسلطة في رام الله، بل بإسرائيل نفسها، على غرار جيش العميل أنطوان لحد في لبنان، زمام السيطرة في غزة؛ وفي أسوأ الأحوال، أن تشارك في إدارة القطاع جهات عربية معتدلة، برعاية أميركية، كانت معنية (وما زالت) بهزيمة المقاومة الفلسطينية، وبالتبعية الخيار المقاوم للاحتلال في غزة، ولاحقاً في غيرها. غير أنه لزم إسرائيل وقت لتعي فشلها، النابع من مراهنتها على معادلة: «إن لم تجد القوّة، فمزيد منها». ومع الوقت، بدأ التجاذب في الآراء يزداد حدّة، إذ لم يقتصر على النخبة بل انسحب أيضاً على الجمهور، الذي فقد ثقته بقدرة الجيش على تحقيق «النصر المطلق».
لزم إسرائيل وقت لتعي فشلها، لأنها راهنت على معادلة: «إن لم تجد القوّة، فمزيد منها»


وبالطبع، مَن في السلطة - وهو الوضع الاعتيادي - سيكون أكثر معاندة إزاء الواقع، وسيسعى إلى تغييره، وهو ما حدث لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي كابر وما زال، بسبب وضعه ومصالحه الشخصية، فضلاً عن أنه وجد مساعدة معتدّاً بها استطاع الصمود بموجبها أمام الضغوط الداخلية والخارجية، وهي وجود ائتلاف من اليمين المتطرّف مع أجندة خاصة به، عقائدية بامتياز، ترى في استمرار الحرب مصلحة لا تقاس بأيّ أثمان، فيما تخشى الأحزاب «الحريدية» في الائتلاف على مصالحها الضيّقة، في حال سقوط نتنياهو وصعود البدائل إلى الحكم.

الأسرى... فضيحة إسرائيل
أمّا معضلة الأسرى الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة في غزة، فلا تقتصر على كونهم أسرى فحسب، بل في كونهم ما زالوا هكذا بعد ثمانية أشهر. وكيفما جاءت رواية إسرائيل الرسمية عن سير المعارك ونتائجها، وادعاء قتل وأسر عشرات الآلاف من المقاومين، يأتي واقع وجود الأسرى لدى «حماس» ليدحض الرواية - التي كانت لتسود، ليس فقط في وعي إسرائيل وجمهورها، بل وربما أيضاً في وعي الجانب المقابل -؛ إذ لا عبرة في الحديث عن سيطرة ميدانية، ما دام أن المقاومة لا تزال تُمسك بالأسرى لديها. على أن الأكثر إحراجاً بالنسبة إلى تل أبيب الرسمية، وفضحاً لموقفها وواقعها، هو أنها تجري مفاوضات مع جهة تقول إنها كادت تنهي وجودها، والأنكى من ذلك، هو أن تتوصّل إلى اتفاق معها، يشمل ليس فقط التبادل، بل أيضاً الإعلان عن وقف الحرب، الأمر الذي يُعدّ إقراراً بالفشل، قياساً إلى القدرات الإسرائيلية وتلك التي لدى المقاومة. وعلى أي حال، لا توجد قدرة لدى إسرائيل على تحقيق الانتصار عسكريّاً، وهو ما يقرّ به غير المكابرين في تل أبيب. كذلك، وهو الأهم، لا توجد مخارج تحول دون احتفال الفلسطينيين في اليوم الذي يلي، بأنهم أفشلوا الحرب. والفرضيتان كلتاهما تصعّبان إنهاء المواجهة، وإنْ لم يَعُد هذا الإنهاء صعباً كما كان عليه ابتداء.