يريد العالم لنا أن نكون دولاباً في آلة. لقد كانت الدماء شديدة الوضوح، وكانت التصريحات لا تحتاج إلى مُعجم أو تحليل لفهمها، لقد قال لنا العالم منذ قرون: أنتم تستحقّون الموت، أنتم «حيوانات بشرية» أو بشر درجة ثانية، وجودكم يكون لاستهلاك إنتاجنا وغير ذلك ستُقلِع طائراتنا لتُحيلكم أشلاءً.

خرج قرار محكمة العدل الدولية الذي يقضي بأن توقِف إسرائيل الحرب على غزة فوراً، بناءً على دعوى جنوب أفريقيا، فاستجاب الكيان السرطاني بمزج خيام النازحين بجلودهم. رمى الاحتلال أطناناً من القذائف الحارقة فوق رؤوس مدنيين عُزّل في رفح ليل 26 أيّار (مايو)، بعدما طردهم من بيوتهم بفعل النيران غير المنقطعة منذ ثمانية أشهر تقريباً. كان هذا ردّ اسرائيل على «القرارات الدولية»، وعلى مراكز اللجوء التي قيل بأنّها مناطق آمنة، وهذا ليس تفصيلاً عادياً، فهذه ليست جريمة كجرائم إسرائيل الأخرى، بل هي تحدٍّ لضمير العالم، إن كان في دورانه غير المُجدي، ما بقيَ من ضمير.
لماذا ثار العالم؟ لماذا هذا الجنون الذي لا يريد منعه النظام العالمي؟ لماذا يُترك الثور في هيجانه المسعور هذا؟ بالطبع يستطيع العالم أن يمنع حدوث مجزرة رفح بعدما حدثت مجزرة «مستشفى المعمداني»، لكنهُ لا يُريد. فالتخاذل كلمة فضفاضة وعقيمة، العالم هو من يفتعل المجزرة، العالم كُلّه مُدان وليست إسرائيل سوى يَد من أيدي الاستعمار. العالم كُلّه مُدان، ذاك الذي جُنّ جنونه لأن شعباً، رفض أن يكون مُطيعاً لنظامه ورفض القبول به. رفض أن يقول للمُحتلّ: وطأت أهلاً وحللت سهلاً. عالم، برموزه وأبطاله المُزيّفين، ما انفكّ يتشدّق بالقول بأن هذا كلّه ــ أي ثمانية أشهر من الظلم والألم واليتم والموت والحرمان والوحشة ـــ هو بسبب عملية السابع من أكتوبر، وأنّ مجزرة رفح الأخيرة هي بسبب عملية الأسر التي قامت بها المقاومة في الخامس والعشرين من أيّار. يسقُط العالم وأسبابه ونتائجه، فلو أُزيلت إسرائيل ومعها آخر بصمة يَد على حجر لمسه مستوطن في أرض فلسطين، وعادت لتزول مراراً وتكراراً، لن يُكفّر هذا عن ربع ما ارتكبه هذا الكيان المسعور من جرائم منذ وجوده إلى يومنا هذا.
عالم برموزه وأبطاله المُزيّفين ما انفكّ يردّد بأنّ هذا كلّه هو بسبب عملية السابع من أكتوبر


كُلّ مجزرة كان ممكناً تجنّبها لو أن للعالم ضميراً من المجزرة الأولى، لكن الذي أعطى الضوء الأخضر والذي موّل مادياً وعسكرياً والآخر المُستعبَد في طابور الانحطاط، لا يُريد للمجازر أن تنتهي. منذ ثمانية أشهر والناس يموتون بأبشع الأساليب. تغيّرت معالم الحياة في مدينة كاملة، كيانات معمارية على أنواعها مُسحت. الناس يأكلهم الجوع والعطش. جُثث تُكتشف بعد أن تتحلّل، آلاف الأيتام وعالم كامل من الوِحشة. هل كان بالإمكان منع نصف ما حدث؟ نعم. ربع ما حدث؟ نعم. كُلّ ما حدث؟ بالطبع. لكن النظام العالمي لا يُريد ذلك. فهل يوجد ممن يقول صُناع قراره «أنتم حيوانات بشرية»، هل يوجد أوضح ممن أعطى إسرائيل الضوء الأخضر من خلال كذبة «حقّ الدفاع عن النفس»؟ هل يوجد أقذر ممن اتّهم المقاومة باغتصاب النساء وقطع رؤوس الأطفال ليُشرع لسرطان الأرض باب الإبادة الجماعية الحاصلة في غزة؟ لا يوجد.
بعد مجزرة «مستشفى المعمداني»، شعرنا بأنّ العالم ستوقّف، ثمّ ما لبث أن طلع الصباح وانصرفت إسرائيل إلى مجازر أخرى. إلى اليوم لم تتوقّف المجازر وآخرها كانت تلك المجزرة المروّعة في رفح، حين انصهرت الخيمة وصارت جلد إنسان ميّت. عالمنا ساقط. لا يحتاج إلى دم آخر ليُثبِت سقوطه.