كشّر القضاء الإسرائيلي «المستقل» عن أنيابه بوجه «المحكمة الجنائية الدولية» في لاهاي. القضاء الذي استهدفته «حكومة الكهانيين»، السنة الماضية، بمخطط لـ«إصلاحه»، أو ما عُرف بـ«الانقلاب» لتحويل إسرائيل إلى «دولة شريعة» يحكمها «معسكر المؤمنين»، خرج، أمس، في خضم «ورشة» انطلقت من الكيان لمواجهة «وقاحة» المحكمة التي تجرّأت على من هي فوق القانون، بهجوم شنّته المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف- ميارا، ومعها المدّعي العام الإسرائيلي، عميت إيسمان، على «الجنائية الدولية» باعتبارها «فاقدة لكل الصلاحيات التي تؤهّلها لإدارة تحقيق في الموضوع». وأتى هجوم بهاراف-ميارا وإيسمان هذا، على خلفية إعلان المدّعي العام للمحكمة، كريم خان، أنه طلب إصدار مذكّرات توقيف قضائية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه، يوآف غالانت، بسبب سلسلة من جرائم الحرب المتهمَين بارتكابها في غزة.«دولة إسرائيل خرجت في الثامن من أكتوبر إلى الحرب التي فُرضت عليها»؛ كتب المدّعي العام والمستشارة القضائية الإسرائيليان، في رسالتهما المشتركة، مضيفيْن أن «دولة إسرائيل هي دولة ديمقراطية، تحارب الإرهاب وتدافع عن أمنها من خلال تطبيق الأدوات القضائية المُلزمة ومن طريق التزام عميق بالقانون»، مدعيَيْن أيضاً أن «قوات الأمن والجيش عموماً، تحارب من دافع التزام كامل بالقوانين الدولية». وتابعا: «المستشار القضائي للحكومة، والمدّعي العام للدولة، يفحصان بشكل أساسي كل ادّعاء جدّي بانتهاك القانون على أيدي المسؤولين الإسرائيليين، ويطبّقون القانون... إن طلب المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكّرات اعتقال ضد نتنياهو وغالانت، فاقد للأُسس».
أمّا نتنياهو، فعدا هجومه على المحكمة، فقد رأى أن طلب خان هو «عملية اغتيال»، معتبراً أن «قرار المدّعي العام يرمي بالوقود على نار معاداة الساميّة المشتعلة في أنحاء العالم. فهو يهاجم دولة اليهود الوحيدة في العالم، محاولاً تقييدنا ومنعنا من الرّد بناءً على قوانين الحرب. هذه الحرب هي حرب جميع الديمقراطيات». وبينما قال لشبكة «إيه بي سي» الأميركية إنه «ليس قلقاً من السفر في أنحاء العالم»، دعا خان، في تهديد مباشر له، إلى أن «يتحسّس رقبته»، قائلاً: «على خان أن يقلق لأنه يحوّل المحكمة إلى منبوذة. وعلى الشعوب (الدول) عدم أخذ كلامه على محمل الجد»، آملاً بأن «لا يوافق القضاة على طلبه لأن ذلك سيحوّلهم إلى قضاة محكمة ميدانية».
في حال صدّقت «الجنائية» على قرار خان، سيمتنع مسؤولو عدة دول عن عقد لقاءات مع نتنياهو وغالانت


وأتى ما تقدّم، بعد إصدار وزير الخارجية، يسرائيل كاتس، تعليمات بتشكيل «غرفة طوارئ» في وزارته لمواجهة قرار خان «الشنيع»؛ حيث من المفترض أن تضم «الغرفة» مسؤولين مهنيين ومختصين قانونيين، بهدف التصدي للمحكمة التي «تسعى لتقييد أيدي إسرائيل ومنعها من حق الدفاع عن نفسها». ولفت كاتس، في تغريدة على منصة «إكس»، إلى أنه سيطالب نظراءه حول العالم بالإعلان عن رفضهم قرار خان، وأنهم لا يعتزمون تنفيذ القرار باعتقال غالانت ونتنياهو إذا ما سافرا إلى بلدانهم. وأضاف أن «أي قوة في العالم لن تمنعنا من استعادة مختطفينا والقضاء على سلطة حماس الإرهابية».
ولعل أولى ثمار «غرفة كاتس» الولايات المتحدة؛ التي قدّم فيها عضو الكونغرس الجمهوري، تشيب روي، مشروع قانون لفرض عقوبات على قادة المحكمة الدولية وقضاتها، لتحقيقهم مع حلفاء واشنطن. ودعم مشروع القانون 25 جمهورياً، من ضمنهم رئيسة مؤتمر الحزب الجمهوري في مجلس النواب، إليز ستيفانيك. أمّا رئيس مجلس النواب، الجمهوري مايك جونسون، فقال إن مجلسه سيصوّت، هذا الأسبوع، على عقوبات ضد «الجنائية الدولية»، مشيراً إلى أن «الكونغرس يفحص جميع الإمكانات، بما فيها فرض عقوبات، لمعاقبة المحكمة في لاهاي، ولضمان أن يدرك قادتها ما هي تبعات أعمالهم إن واصلوها». واتّهم جونسون الرئيس الأميركي، جو بايدن بـ«المساعدة في تقديم الدعوى بسبب مساعيه للجم عمليات إسرائيل العسكرية في غزة».
كذلك، عُقدت جلسة استماع في الكونغرس سُئل خلالها وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، عن ما إن كانت إدارته تخطط لاتخاذ إجراءات ضد خان والمحكمة الدولية، إن صدرت مذكّرات التوقيف ضد المسؤولين الإسرائيليين، وما إن كان سيدعم فرض عقوبات عليها، فردّ بأن «الإدارة تفحص إمكانية فرض العقوبات بالفعل لمواجهة القرار الخاطئ جداً». أمّا السيناتور الجمهوري، لندسي غراهام، الذي دعا إلى إلقاء قنبلة نووية على غزة، كما فعلت بلاده بهيروشيما وناكازاكي، فطالب بلينكن بفرض العقوبات، قائلاً: «أريد خطوات فعلية وليس كلاماً». وسأله خلال الجلسة: «هل ستدعم الجهود الحزبية الثنائية لفرض عقوبات على المحكمة؟ ليس فقط لأجل إسرائيل وإنما لكي نحمي مصالحنا مستقبلاً»، فردّ بلينكن: «سأحرص على عمل مشترك معكم بهذا الشأن».
على المقلب الآخر، سيمتنع رؤساء ووزراء في دول وقّعت على «معاهدة روما» التي تأسّست في أعقابها «المحكمة الجنائية الدولية» عن عقد لقاءات مع نتنياهو وغالانت، في حال صدّقت المحكمة على قرار خان. ووفقاً لما نقلته صحيفة «هآرتس» عن أحد هؤلاء الدبلوماسيين - وهم من دول داعمة لإسرائيل - فإن «اللقاء مع نتنياهو وغالانت سيكون أشبه باللقاء مع بوتين (الرئيس الروسي الذي صدرت بحقه مذكّرة توقيف دولية)»، وإنه «إذا صدرت مذكّرات الاعتقال ضدهما، فإننا سنستمر في إقامة علاقات عادية مع إسرائيل في مستويات كثيرة، لكن لن تكون هناك لقاءات شخصية مع من صدرت بحقهم مذكّرات كهذه». وفي الإطار نفسه، رأى دبلوماسي آخر أنه كان على إسرائيل أن تتصرف بشكل مغاير حيال المحكمة والمدّعي العام، منذ البداية، مشيراً إلى أن «وضع نتنياهو والسنوار في الخانة نفسها كان خاطئاً كلياً. لكن هذا لا يزال يثير تساؤلات بالنسبة إلينا، بينها هل بإمكاننا لقاء شخص صدرت مذكّرة اعتقال دولية ضده؟ ستواجه دول صعوبة بالغة في إظهار أن كل شيء يجري كالمعتاد في علاقاتها مع نتنياهو وغالانت».
وفي المحصّلة، فإن غالبية الدولة الحليفة للكيان، قد وقّعت على «معاهدة روما»، باستثناء الولايات المتحدة، التي تأمل إسرائيل وفق الصحيفة أن «تمارس ضغوطاً على المدّعي العام كي يتراجع عن إصدار مذكّرات التوقيف ضد نتنياهو وغالانت، وأن تشمل الضغوط الأميركية فرض عقوبات على خان وطاقمه، تتعلق بمنع دخوله الأراضي الأميركية»، لكن خان أعلن أن ضغوطاً كهذه «لن تجعله يغيّر طبيعة عمله».