لندن | من دون ألوانها المعتادة بين البرتقالي والأسود، وبترك مساحات الصور فارغة سوى من إطار ووصف موجز لما كان يفترض أن تكون الصورة المختارة لذلك المكان، صدر العدد النصف السنوي من «ريل ريفيو» (العدد الخامس عشر) المجلّة الثقافية اللندنية حول سؤال دائم هو «أي معنى للعيش اليوم؟» وثيمته المعبّرة عن الصدمة الخالصة بسبب حرب الإبادة في غزّة: «وهم الحريّة». استعارت «ريل ريفيو» عنوان «وهم الحريّة» من اسم الفيلم الكوميدي للمعلّم الإسباني المكسيكي لويس بونويل الذي يتحدى الواقع عبر سخرية لاذعة حول سلسلة غير خطيّة من الحوادث الغريبة التي لا يجمع بينها سوى انتقال الشخصيات ذاتها من موقف إلى آخر لا علاقة له بالموقف السابق، ما يشكّك المرء في مفاهيمه المستقرة حول الأعراف الاجتماعية وطبيعة العالم الذي يعيش فيه.

وفي تقديم العدد، كتبت جيني هولز «إن ما يثير القلق الشديد ليس نقل صور العنف من قطاع غزة، بقدر ما هو غياب صورة ما يحدث بالفعل على الأرض. إنّ حزن الطفل الغزاوي ويأسه كما تنقله الصورة، يدفع إلى التساؤل عن حجم الوجع والألم والقنوط التي تفشل الكاميرا في نقله عن آلاف الغزيين الآخرين». وتقول: «دمّر حجم وسرعة هذه المعاناة البشريّة في غزّة قدرتنا على الحفاظ على أي إيمان بالقيم الرمزية لأشياء مثل «المجتمع الدولي» و«حقوق الإنسان». ولم يعد بإمكاننا حتى التظاهر بأن هذه الأفكار ترتبط بأي شكل من أشكال الواقع». وتضيف: «لقد دقّت الواقعية المفرطة لهذه الأحداث الآن إسفيناً بين واقعنا المادي والاجتماعي، وقد خصّصنا هذا العدد لنلتقط هذا المزاج الحالي، حيث الصدمة المروّعة بوهم الحريّة والتلبرر (الذي نعيشه في الغرب)».
وتؤكد هولز أن الإبادة التي تتعرض لها غزّة تحدث بتواطؤ تام من النخب الحاكمة الغربيّة، «ما يدفعنا إلى التساؤل حول حقيقة فهمنا الجمعي لماهيّة «الدولة الوطنية» وغاية وجودها». فما كشفت عنه دماء الغزيين هو أنّ تلك الدولة هي رخصة للقتل الجماعي، وأداة تنفيذية للكراهية العنصريّة، ومأسسة للتوحش، مع انعدام كليّ للصلة بآمال المواطنين الحقيقية. ولذا لن تتعافى هيمنة النخب الحاكمة بعد مذبحة غزة، وستظل سلطتها، في غياب بديل ثوري، على أرض مهتزة، وتتركنا في حالة من الأمل السلبي الكئيب: هم فقدوا شرعيتهم، لكنهم لن يذهبوا سريعاً.


وللتعبير عن عجز الصورة وغياب التمثيل عن الناس في غزّة، اختارت المجلة عدداً من الصور والرسوم المتداولة عن آلام الغزيين وخسائرهم لأحبابهم، وكتبت وصفاً لبعضها داخل إطار فارغ مع رابط يأخذك إليها على الإنترنت من دون نشر الصورة الأصليّة على الورق، وامتنعت أيضاً، للمرة الأولى منذ صدور عددها الأول، عن استخدام التبادلات بين البرتقالي والأسود في الرسوم المجرّدة التي تزين غلافها وصفحاتها عادةً وتمنح المجلة شخصيتها البصرية المميزة، فجاء العدد الأحدث أسود من دون ألوان، كحقول مديدة حزينة من الكلام العبثي تتراصّ حول إطارات الصور الفارغة.
لو بُعث جورج أورويل حياً، لأصابته الدهشة ممّا فعله الإسرائيليون بوعينا (شومون باسار)


وفي العدد مقابلة مهمّة مع المفكر والمنظر الثقافيّ شومون باسار حول تفكيك منتجات الحداثة الاستعماريّة اتهم فيها دولة الاستيطان الاستعماري العبرية بأنّها تعمل بشكل مستمر وبلا وهن على إعادة هندسة اللغة التي نستخدمها في وصف العالم، إلى درجة أننا كأنّنا نعيش في متاهة من المرايا الخادعة التي صنعتها «إسرائيل»، إذ إن كل كلمة تعني نقيضها تماماً. فمعاداة الصهيونية كمشروع سياسيّ إمبريالي صارت معاداة لليهود، والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة دعم لـ «الإرهابيين»، وهكذا حتى إنّ جورج أورويل (صاحب رواية 1984 وفيها فكرة اللغة المتناقضة تلك) لو بُعث حياً، لأصابته الدهشة ممّا فعله الإسرائيليون بوعينا».

https://real-review.org