مطلع آذار الماضي، عندما كانت النار في قطاع غزة قد بلغت ذروة تهدّد بالتمدّد، أمر الرئيس الأميركي، جو بايدن، جيشه ببناء رصيف عائم في القطاع لإيصال المساعدات إليه بحراً عن طريق قبرص، بعدما عرقلت إسرائيل وصولها براً. وكان القول إشكالياً بدرجة كبيرة لجهة أنه يصعب التفكير في أن واشنطن لا تستطيع الضغط على تل أبيب لتسمح بدخول الشاحنات المتوقّفة عند معبر رفح، ما يفضي إلى نتيجة مؤداها أن مبرّر إنشاء الرصيف، وفق رواية الرئيس الأميركي، يصبح لاغياً.وفي 24 نيسان الماضي، أعلن «البنتاغون»، في بيان، أن الجيش الأميركي بدأ بناء الرصيف على ساحل غزة بطول 550 متراً وبتكلفة تصل إلى نحو 320 مليون دولار. وأضاف أن الرصيف سيسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، حين يصبح جاهزاً في أيار الحالي، ليتابع البيان أن الفعل «لا يتضمّن نشر قوات على الأرض، لكن جنوداً أميركيين سيكونون بجوار قطاع غزة خلال بناء الرصيف». وبعد أربعة أيام من ذلك، نشرت القيادة المركزية الأميركية الصور الأولى لعمليات البناء، والتي تُظهر أنها قطعت أشواطاً لا بأس بها في تأكيد جدية الموعد الذي حدّده «البنتاغون».
الفكرة ليست جديدة؛ فقد سبق للولايات المتحدة أن استخدمت نظام «الخدمات اللوجستية على الشاطئ» منذ ستينيات القرن الماضي في زمن الحرب الفيتنامية، ثم إبان التعامل مع زلزال هايتي عام 2010، لكن الصورة تطوّرت خلال مناورات «تاليسمان سابر» التي نظمها الجيش الأميركي مع نظيره الأسترالي قبالة ساحل كوينزلاند عام 2023. والثابت هو أن المرامي السابقة لتلك الطبعات، التي كانت تبتعد عن المعلن دائماً، تشي بأن مرامي عدة شبيهة تقف وراء الإعلان عن بناء رصيف غزة الذي يقع إلى جنوب غرب مدينة غزة مباشرة، إلى الشمال قليلاً من «محور نتساريم» الذي عمل الجيش الإسرائيلي على شقه أواخر كانون أول الماضي، بغرض تقطيع أوصال شمال القطاع عن جنوبه.
هل يصبح الرصيف معبراً مهمته ترحيل أبناء غزة وتفريغه من سكانه تماماً؟


من المحتمل أن يكون للتأخير، أو عرقلة الوصول إلى اتفاق بين حركة «حماس» والاحتلال، علاقة مباشرة بالرصيف الذي يجري العمل حثيثاً لإنجازه، حيث تمثّل العرقلة هنا، من جهة، فرصة لإسرائيل لكسب الوقت من أجل الاستعداد لمعركة رفح وإعطاء القوات الإسرائيلية، المنهكة بعد أكثر من 210 أيام من قتال لم تعهده سابقاً، فرصة للراحة والتجميع، ومن جهة أخرى، قد يكون لتهيئة الظروف، لمقايضة عدم الاجتياح بثمن مجز يحصل عليه رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، من بايدن، ويبرّر له داخلياً التراجع عن معركة رفح، وهذا يتوقّف على النتائج التي أفضت إليها لقاءات وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، الأخيرة في الرياض، والتي كانت كلمة السر فيها، من دون أدنى شك، هي التطبيع بين السعودية والاحتلال، إذ دائماً ما كانت نظرة الأميركيين إلى هذا الأمر تقوم على أنه يمثل «جائزة السعفة الذهبية» التي يمكن أن تحفظ لنتنياهو ماء وجهه، في حال الحصول عليها.
وعليه باتت الأحداث وتطوّراتها أمام أحد احتمالين: الأول أن يكون بلينكن قد استطاع تحقيق خرق وازن في الجدارات السعودية بما يهيئ المناخات أمامها للموافقة بشكل علني على التطبيع مع الاحتلال، وهذا سيتضمّن بالضرورة قطع الطريق على معركة رفح، والوصول إلى اتفاق ما يقضي بوقف إطلاق النار، ثم صفقة لتبادل الأسرى؛ والثاني أن يكون بلينكن قد فشل في مسعاه ذاك، بمعنى أن تكون الرياض بقيت عند موقفها المعلن الذي يقول إنه ليس في استطاعتها النزول تحت سقف «قمة بيروت 2002»، وهذا احتمال كبير قد يظل قائماً طالما بقي الملك سلمان في سدة العرش، لاعتبارات لها علاقة بتركيبة «جيل الأبناء» التي يسعى ولي العهد، محمد بن سلمان، إلى تجاوزها قبل أن تبدأ مرحلة «جيل الأحفاد». وفي هذه الحالة، تصبح معركة رفح حتمية إنقاذاً لنتنياهو الذي سيكون عندها في مواجهة مع بايدن، قواعدها أقرب إلى لعبة «الروليت» الروسية التي تحتم بقاء أحد طرفيها، فقط، «على قيد الحياة» بالمعنى السياسي للكلمة. وبذا، يصبح الرصيف معبراً مهمته ترحيل أبناء القطاع وتفريغه من سكانه تماماً.
قد يكون الاحتمال الثاني هو الأوزن، الأمر الذي يعني الوصول إلى معركة رفح التي لن تختلف بالتأكيد عن سابقاتها في شمال القطاع وجنوبه، حيث القاعدة الناظمة لتلك المعارك تقول إن الدخول ممكن، لكن التمكين مستحيل. وهذا سيدفع بالضرورة إلى توتّر إقليمي قد يُستخدم الرصيف، في أتونه، لنقل قوات برية، أميركية وبريطانية، لدعم إسرائيل إذا ما اقتضى الأمر. وما يثير الريبة والشكوك، في هذا السياق، هو وجود دور بريطاني يبدو خفياً، أو هو غير ظاهر على السطح بشكل جلي، إذ دائماً ما كانت «الأفكار» البريطانية هي الأعمق، والأبعد في حساباتها، من نظيراتها عند باقي الغرب، فقد قيل قديماً: «لكل داء يصيب المرء سببان: البرد والإنكليز». ومن دون شك، أثبتت الذات الجماعية للمنطقة، عبر مواقفها وأمثالها، أنها الأكثر قدرة على معايرة الأحداث واستصدار المواقف منها، من السطح السياسي الذي يطفو فوقها، ذاك المتمثل في أنظمتها وتياراتها ونُخبها، والذي تلقّى خلال الأشهر السبعة الماضية صفعة مدوية، لكن رغم شدّتها، بدا متماسكاً وهو يستعد لتلقي أخرى ثم أخرى، في مؤشر إلى أن «اليباس» أضحى على مقربة من «الخلايا الجذعية»، المسؤولة عن ترميم الميت من الأنسجة، في الأمة.