رام الله | تحت جنح الظلام، انسحب جيش العدو من مخيم نور شمس في مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية، مساء السبت، بعد اجتياح استمر لمدة 50 ساعة، لتتكشف مع ساعات نهار أمس الأولى أهوال المجزرة والدمار في المخيم. وفيما تمكنت الطواقم الطبية من انتشال 14 شهيداً، بعدما منعتها قوات الاحتلال، طوال مدة الاقتحام، من إدخال أي سيارة إسعاف، وسط حصار مطبق قطعت خلاله الكهرباء والمياه، يصف المواطنون حال المخيم بـ«غزة الصغرى» في دلالة على حجم الدمار الذي أحدثه الاحتلال خلال 3 أيام. إذ تعرّضت المنازل لقصف واسع بقذائف «الأنيرغا» والقذائف المحمولة على الكتف، وسط إجبار سكانها على تركها تحت تهديد السلاح والقتل. وتبين أن الدمار طاول ما يقارب الـ60 منزلاً في حارة المنشية، من بينها قرابة الـ15 منزلاً بشكل كامل، فيما نهشت جرافات «D9» الشوارع والبنية التحتية والأسوار والمحال التجارية.ويحمل العدوان على «نور شمس»، والذي كان من أبرز سماته التدمير الشامل - الذي لم تشهده مدن الضفة أو قراها سابقاً حتى في اجتياح عام 2002 -، دلالات عدة؛ أبرزها، نقل نموذج الإبادة في قطاع غزة وقبله «عقيدة الضاحية» إليه، لتطبيقها كمنهجية عمل لجيش العدو في مواجهة المقاومة في الضفة. وضمن هذه الإستراتيجية، لا تكتفي قوات الاحتلال بمواجهة المقاومين، بل تسعى إلى تحويل المخيمات إلى أماكن لا تصلح للحياة البتة، وهو ما أشار إليه حجم الخراب الكبير في المخيم، معززاً قناعة المواطنين بأن العدو يسعى إلى محو منطقتهم من أساسها، وتحويلها إلى جحيم طارد لهم، والضغط عليهم لتأليبهم على المقاومة، باعتبارهم حاضنة دائمة لها. وعلى غرار ما أعلنه رئيس دولة الاحتلال، يستحاق هرتسوغ، مع بدء العدوان على غزة، من أنه لا يوجد مدنيون هناك، وتحميله هؤلاء مسؤولية ما يجري كونهم سمحوا للمقاومة في غزة بأن تستمر، يبدو أن العدو يستخدم القاعدة نفسها في الضفة، وتحديداً في المخيمات، التي يمثّل وجودها بوصلة إلى حق العودة، والذي تسعى إسرائيل إلى اجتثاثه عبر القضاء على كل ما يرتبط به، ومن ضمن ذلك حربها ضد وكالة «الأونروا».
تبخر «الإنجاز الإسرائيلي» بعدما تبيّن أن قائد «كتيبة طولكرم» بخير ولم يتمكن الاحتلال من الوصول إليه


ويجيء ذلك في محاولة لاسترداد قوة الردع، بعدما فشلت إسرائيل، منذ أكثر من 3 سنوات، عبر سياسة جز العشب والعمليات العسكرية الدورية التي شنّتها، وآخرها «كاسر الأمواج»، في كسر حالة المقاومة في الضفة. إذ استطاعت المخيمات، التي مثّلت رأس حربة المقاومة هناك، وعلى رأسها مخيما جنين ونور شمس، في الأشهر الأخيرة فرض معادلات جديدة في الميدان، فضلاً عن نجاحها في الصمود والتكيف والبقاء على قيد الحياة، رغم قلة إمكاناتها ومحاربتها وملاحقتها من قبل الاحتلال وحتى الأجهزة الأمنية الفلسطينية. وفي ظل هذا الفشل، يرى مراقبون أن ما شهده «نور شمس» قد ينسحب على مخيمات أخرى، وتحديداً «جنين»، الذي قد يكون هدف الاحتلال التالي.
وبحسب «القناة 12 العبرية»، شنّ جيش العدو، منذ السابع من أكتوبر، 60 عملية عسكرية في الضفة الغربية، غالبيتها الساحقة في المخيمات، من دون أن يتمكن من تحقيق كل الأهداف المعلنة له. وواكبت وسائل الإعلام العبرية العدوان على «نور شمس»، واصفة إياه بـ«العملية الأكبر» في المخيم منذ بدء الحرب على قطاع غزة، والتي شاركت فيها عدة وحدات مختارة من الجيش، بهدف «مداهمة حي في المخيم فيه عدد كبير من المسلحين، وتفتيشه بيتاً بيتاً»، استناداً إلى «توجيهات استخبارية دقيقة». وعلى خلفية ذلك، تم تجريف شوارع كثيرة في المخيم بدعوى وجود متفجرات مزروعة فيها، كما تم تدمير مبنيين لشكوك بكونهما مفخخين، فيما «عُثر خلال العملية على مختبرين لتصنيع المتفجرات»، بحسب زعم وسائل الإعلام تلك. وعلى خطٍّ موازٍ، روّج الإعلام العبري لإنجاز للجيش، متمثل في تمكنه من اغتيال «قائد كتيبة طولكرم»، الملقب بـ«أبو شجاع». إلا أنه بعد ساعات من تبني اغتياله وإفراد مساحة واسعة عن ذلك الاستهداف، تبخر «الإنجاز» الإسرائيلي بعد أن تبيّن أنّ «أبو شجاع» بخير ولم يتمكن الاحتلال من الوصول إليه. ووصفت صحيفة «يسرائيل هيوم»، بدورها، مخيم نور شمس بأنه «من أكثر المخيمات تطرفاً في الضفة الغربية، ويشكل خطراً كبيراً على الجبهة الداخلية الإسرائيلية لقربه من شارع رقم 6، ومن مستوطنات بيت حيفر وكفار يونا ونتانيا»، لافتةً إلى أن «الجيش يخطط منذ مدة للعمل فيه».
والجدير ذكره، هنا، أن المنطقة التي أقيم عليها مخيم نور شمس شرق طولكرم، شهدت، قبل أن تصبح مخيماً في عام 1952، أول معركة منظمة أثناء «الثورة الفلسطينية الكبرى» مع قوات الانتداب البريطاني في حزيران 1936، وهي معركة «نور شمس» بقيادة عبد الرحيم الحاج محمد، والتي أسفرت عن مقتل 50 جندياً بريطانياً وتدمير 3 سيارات وإسقاط طائرة مروحية، لتندلع شرارة المقاومة من تلك الأرض، وتبقى متّقدة في كل المحطات وصولاً إلى نشوء «كتيبة طولكرم»، التي تحرس الشعلة بالدم. ومن حول هذه المقاومة الصلبة، تلتفّ بيئة اجتماعية قوية، تجسدت في أم عبد اللطيف غنام، التي ودّعت، خلال الاقتحام الأخير، اثنين من أبنائها، بعد 6 شهور فقط من استشهاد ابنيها الآخرين، لتكون قد ودّعت في 6 أشهر 4 من أبنائها شهداء، وخامساً أصابه مرض عضال.