جدّدت جنوب أفريقيا، عشية دخول الحرب على غزة شهرها السادس، مطالبتها «محكمة العدل الدولية» بتقوية الإجراءات المؤقتة التي أقرتها الأخيرة في كانون الثاني الماضي، من أجل «منع وقوع مجاعة في قطاع غزة». ويأتي ذلك فيما يتزايد عدد ضحايا «سوء التغذية» في القطاع، وتعجز عمليات إنزال المساعدات الإنسانية من الجو من قِبل الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية عن إحداث أي فارق في المشهد، وتتزايد توقعات منظمات دولية بوفاة ما يقرب من 100 ألف فلسطيني في الأشهر الستة المقبلة تأثراً بـ«المجاعة»، في حال استمرار الأوضاع الراهنة.
الطلب الجنوب أفريقي: ما قبل الكارثة؟
جاء التحرك الجنوب أفريقي متّسقاً مع مجمل سياسات الدولة الأفريقية تجاه الحرب على غزة منذ ساعاتها الأولى، واستكمالاً لجهودها لدى «محكمة العدل الدولية»، والتي أطلقتها في 29 كانون الأول الفائت، ونجحت عبرها في حشد العالم ضد الإبادة الجماعية المرتكبة في القطاع، وتابعتها بمخاطبة المحكمة، منتصف شباط، بالحيلولة دون إقدام إسرائيل على تنفيذ هجومها على رفح، وهو ما قابلته «العدل الدولية» بتذكير دولة الاحتلال بأن «الوضع الكارثي في رفح» يتطلب تطبيقاً فورياً وفعالاً للإجراءات المؤقتة التي أقرّتها المحكمة في 26 كانون الثاني، والتي تتضمن التزام إسرائيل بضمان سلامة وأمن الفلسطينيين في غزة (بوصفها قوة احتلال).
لكن، يمكن ملاحظة أن لغة بريتوريا في طلبها الأخير بدت أقلّ حدّة؛ إذ استهلته بوجوب ضمان «جميع المشاركين في الحرب» الوقف الفوري لجميع مظاهر القتال والأعمال العدائية، والإفراج الفوري عن جميع الرهائن والمعتقلين، واتخاذ الأطراف «جميع الإجراءات الضرورية للوفاء بالتزاماتهم بمقتضى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»، و«النأي عن أي عمل، ولا سيما العمل العسكري، يمكن أن ينتهك حقوق الطرف الآخر في ما يتعلّق بما قررته محكمة العدل، أو ما قد يؤدي إلى امتداد النزاع أمام المحكمة أو يصعّب تسويته». أما الحديث المباشر عن إسرائيل، فجاء في «المطلب الرابع»، بالتشديد على ضرورة اتخاذها إجراءات فورية وفعالة لإتاحة تقديم الخدمات الأساسية المطلوبة، والمساعدات الإنسانية لمواجهة المجاعة والجوع عبر حزمة خطوات: التعليق الفوري لعملياتها العسكرية في غزة؛ ورفع الحصار عنها؛ وإبطال جميع الإجراءات والممارسات القائمة التي تؤثر على نحو مباشر أو غير مباشر على وصول المساعدات إلى الفلسطينيين. وختاماً، تضمّن الطلب الجنوب أفريقي ضرورة إلزام إسرائيل بتقديم تقرير إلى «العدل الدولية» حول جميع الإجراءات التي اتخذتها لتنفيذ الإجراءات المؤقتة التي أمرت المحكمة بتفعيلها في غضون شهر من تاريخ ذلك «الأمر».
اهتمت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالطلب الجنوب أفريقي، وأدرجته ضمن «هجمة» بريتوريا على دولة الاحتلال


وبالتزامن مع تقديمها الطلب، أصدرت الرئاسة الجنوب أفريقية بياناً، حذرت فيه من أن خطر وقوع مجاعة شاملة بات ملموساً، وأن سكان قطاع غزة يواجهون «مأساة وشيكة»، مكررةً ربط هذه التهديدات بجريمة الإبادة الجماعية. وفي السياق نفسه، طالبت وزيرة الخارجية الجنوب أفريقية، ناليدي باندور، في مؤتمر صحافي عقدته في جوهانسبرغ، الدول الحليفة لإسرائيل بإرسال قواتها إلى القطاع لتأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى سكانه، كاشفة عن توجيهها سفير بلادها في الأمم المتحدة ببذل كل جهد ممكن لحشد مواقف السفراء الآخرين في المنظمة الدولية، بما يتيح تمرير قرار عاجل بوقف إطلاق النار في القطاع.

طلب جنوب أفريقيا: مفاصلة متجددة
اهتمت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالطلب الجنوب أفريقي، وأدرجته ضمن «هجمة» بريتوريا على دولة الاحتلال، ولا سيما أنه جاء تالياً لطلب مماثل قبل أقل من شهر، متسلّحةً برفض حلفاء إسرائيل الغربيين «دعاوى» جنوب أفريقيا باعتبارها «بلا أساس»، ومُرجعة وقوع ضحايا مدنيين إلى «تكتيكات حماس» التي تجعل من الصعوبة بمكان «تفادي وقوع هذه الخسائر» بحسب زعمها. وعززت تلك الرواية الصهيونية العديد من المنافذ الإعلامية الغربية، في وقت استمرت فيه مراوحة الموقف الرسمي الغربي في موقع إتاحة الوقت الكافي لإسرائيل لتحقيق غاياتها بغض النظر عن التكلفة الإنسانية، مع محاولة تظهير الحرص على وقف إطلاق النار. وفي هذا السياق، أعلنت واشنطن، بعد تقديم بريتوريا طلبها بساعات، وجود تقدم في المحادثات، وتزايد احتمالات التوصل إلى اتفاق في ظل تعاظم المخاوف الدولية من الوضع الكارثي في القطاع، مؤكدة استمرار الدفع نحو هدنة إنسانية (قد تصل إلى أربعين يوماً) بحلول رمضان (11 الجاري).
في المقابل، فإن الدعم الأكبر للخطوة الجنوب أفريقية جاء هذه المرة من الصين، التي أعلنت وزارة خارجيتها (7 الجاري) إدانة بكين لعملية الإبادة التي تقوم بها إسرائيل في غزة، واصفة إياها بـ«السبّة» في وجه الحضارة الإنسانية. ودعت الوزارة إلى الوقف الفوري لإطلاق النار في القطاع، ولا سيما في ضوء الوضع المزري والمتفاقم، فيما وصف وزير الخارجية، وانغ يي، الحرب بأنها «مأساة للبشرية في القرن الحادي والعشرين، حيث تستمر هذه الكارثة الإنسانية من دون تسوية»، مؤكداً أنه «لا يوجد سبب يبرر استمرار الصراع، وأنه ليس ثمة عذر لقتل المدنيين». كذلك، دعا يي «المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل ووضع أولوية لإنهاء العداءات وضمان تقديم إغاثة إنسانية عاجلة»، مجدداً «دعم بلاده لمنح دولة فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة»، ومشدداً على أنه «لا يمكن تجاهل احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية».

خلاصة
ربما يقود طلب جنوب أفريقيا المقدم إلى «محكمة العدل الدولية»، ضمن عوامل أخرى، إلى تحريك المياه الراكدة في معالجة «المجتمع الدولي» للأزمة الإنسانية الشاملة في قطاع غزة، والحيلولة دون وقوع اجتياح بري إسرائيلي لمدينة رفح. إلا أن مدى هذا التأثير يتوقف على استجابة المحكمة نفسها للطلب، وإمكانية إصدارها قرارات أكثر إلزامية ووضوحاً تجاه العدوان الصهيوني، ولا سيما مع ثبوت حقيقة الإبادة الجماعية، يوماً بعد آخر، في القطاع.