هل هي يا تُرى الملحمة الكبرى؟ هل هي المعركة الأخيرة والحاسمة في حرب النازيّين على فلسطين؟ يبدو أن المحنّط جو بايدن قد سمح للمنحطّ بيبي نتنياهو أن يرتكب الإبادة العرقية، لكن بشرط الدقّة في التنفيذ، ومن دون أدنى اكتراث لما صدر أخيراً عن محكمة العدل الدولية بصدد تلك الإبادة.
نشهد في الدول الغربية في يومنا هذا، وهي صاحبة النسب العريق في الاستعمار، ما يذكّرنا بحشد هائج من مشجّعي كرة القدم الذين يصيحون ويهتفون لفريقهم، أعني ينعقون لهذه "الإسرائيل" التي تذكّرهم بأيامهم المجيدة حين كانوا يعربدون في أصقاع الأرض إبادةً واستعباداً ونهباً. وإلا، كيف لنا أن نفهم هذا الحماس لانتصار إسرائيل الحضارية على الهمجيّين العرب؟
في عام 1967 صدر مقال في جريدة "التلغراف" اللندنية للكاتب برغرين ورسثورن بعنوان "انتصار المتحضّرين". يبدأ المقال كالآتي: "خلال الأسبوع المنصرم، استطاع مجتمعٌ غربيٌّ بالغ الصغر، تحيط به أعداد لا حصر لها من البشر المتخلّفين، أن يفرض إرادته على العرب في أيامنا هذه وبما يشبه السهولة التي فرض فيها الرجل الأبيض إرادته على شعوب آسيا وأفريقيا في أوج عصر الاستعمار".
ليس من المطلوب أن يكون قارئ هذه الكلمات ناقداً أدبياً، لكي يستشفّ منها حنيناً إلى عصر ذهبي أثاره في النفوس مجدّداً انتصار "مجتمع غربي" حضاري على التخلّف. وكأنّ الكاتب يتأسّف على انصرام عصرٍ كانت فيه الحضارة محصورة بالغرب وبالرجل الأبيض، أو كأنه يقول: للأسف الشديد علينا اليوم أن نلطّف كلامنا حول هذه الأمور لكنني لن ألطّف أنا كلامي.
ولمّا هلك هذا الكاتب، في عام 2020 ، نجد في نعيه في الصحف البريطانية صورةً ملطّفة جداً له، فلا يوصف بالعنصري المَقيت، بل ويرد في أقصى الأحكام بحثه، أنه كان "متقلّباً بل أشبه بالمشاكس" رغم أنه كان "جذّاب الأسلوب" في كتاباته، بل كان فيه شيء من "دعابة"، إذ كان أول من استعمل الكلمة النابية في التلفزيون. ولنا أن نستنتج أن عنصرية هذا الكاتب الفاضحة، تُعامل وكأنها أمر شاذّ. بل كأنه أمر مستظرف، ومغفورة خطاياه شرط الأناقة في الأسلوب الأدبي.
هذا النعي لم يأتِ من جريدة يمينية، بل من جريدة "الغارديان" الرصينة، وهو ما يفتح لنا النافذة على ما قد علق في نفوس الطبقات المسيطرة في الغرب، من توقٍ إلى فرض القوة المجرّدة التي لا يردعها سوى الخشية من فقدان مصادر نهب العالم الثالث.
أليس هذا ما نشهده في رفح اليوم؟
من الجلي أن الانحدار نحو اليمين في معظم دول الغرب لا يمكن أن يتوقّع المرء من أصحابه سوى الرغبة الدفينة بطمس أو تغليف الفترة "الليبرالية" السابقة، والعمل لأجل استحضار فترة جديدة من الزمن، حيث ينبغي فيها للعالم الثالث، أن يفهم من هو القوي حقاً في عالم اليوم.
هنا العبرة من اجتياح رفح المرتقب: اشهدْ أيّها العالم الثالث ماذا سيحلّ بك أنت وقوانينك الدولية إن أنت تجرّأت على مقاومة الاستعباد.

* مؤرّخ