والواقع أنّ العودة إلى هذا الخيار تبدو أقرب إلى وسيلة إلهاء للفلسطينيين، الذين يتجدّد بيع الوهم لهم. إذ لو كانت واشنطن وعواصم الدول الأوروبية صادقة في نواياها، بعد 30 عاماً من «اتفاق أوسلو»، فالأجدر بها - على الأقل - أن تعلن اعترافها بدولة فلسطين بشكل مباشر، على غرار اعترافها بإسرائيل «الدولة»، وألّا تقف سداً منيعاً في وجه إدانة الاستيطان في «مجلس الأمن الدولي». وفيما يرى البعض في الحراك السياسي الأخير بادرة جيدة بعد سنوات من التهميش والتجاهل للقضية الفلسطينية، فإن الفضل في ذلك يعود إلى المقاومة وعملية «طوفان الأقصى» التي أكدت حركة «حماس» أنها جاءت كـ«خطوة ضرورية واستجابة طبيعية لمواجهة ما يُحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وسعياً إلى إنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة».
وينطبق الواقع المشار إليه، أيضاً، على الدول العربية، التي رأت في ضعف السلطة الفلسطينية، وتسوّلها العطف الدولي، فرصةً لإبرام صفقات تطبيع مع إسرائيل، متجاهلة حتى «المبادرة العربية» التي وضعت شروطاً للتطبيع مع إسرائيل، منها إقامة دولة فلسطينية. وفي المقابل، وإزاء المشهد المتفجر في قطاع غزة، وجدت الدول العربية نفسها في موقع حرج، وسط غليان شعبي في كل دول العالم، وتغيرات في المنطقة لن تبقى بعيدة عنها. ورغم ذلك، واصل بعضها علاقاته مع إسرائيل كالمعتاد، مكتفياً بالإدانة والتمني، بينما لعبت دول أخرى دور الوسيط. وضمن هذا السياق، قدّمت خمس دول عربية أخيراً عريضة إلى إسرائيل، عبر الولايات المتحدة، تتضمن موافقتها على التطبيع مع العدو مقابل إقامة دولة فلسطينية، بحسب صحيفة «وول ستريت جورنال»، وهو ما يأتي خلافاً للمبادرة السعودية نفسها التي كانت قد تبنتها «الجامعة العربية».
المثير للسخرية هو أن الوثيقة الأوروبية هدّدت بـ«عواقب» ضد إسرائيل إذا رفضت المشاركة في الخطة
وبدوره، نظّم «الاتحاد الأوروبي»، الإثنين الماضي، سيركاً سياسياً في بروكسل أثناء اجتماع وزراء خارجية دوله، بمشاركة وزراء خارجية بعض الدول العربية، ووزيري الخارجية الفلسطيني والإسرائيلي بشكل منفصل. وبحث اللقاء «خطة سلام شاملة» أعدّها الاتحاد، تتضمن مقترحاً لإنهاء الحرب في غزة، وتنصّ على الدعوة إلى عقد «مؤتمر تحضيري للسلام» ينظّمه كل من التكتل الأوروبي ومصر والأردن والسعودية و«جامعة الدول العربية»، مع دعوة الولايات المتحدة والأمم المتحدة أيضاً إلى المشاركة فيه، «حتى لو رفض الإسرائيليون أو الفلسطينيون المشاركة»، على أن يتم التشاور مع الطرفين في كل خطوة.
والمثير للسخرية، هنا، هو أن الوثيقة الأوروبية هدّدت بـ«عواقب» ضد إسرائيل إذا رفضت المشاركة في الخطة، فيما الدول الأوروبية لم تجرؤ طوال العقود الماضية على إدانة إسرائيل لتدميرها مئات المشاريع الإغاثية التي مولتها بروكسل في المناطق «ج» في الضفة الغربية، كما تغضّ النظر عن الرفض الإسرائيلي الصريح والواضح لفكرة إقامة دولة فلسطينية، وتتجاهل مواصلة دولة الاحتلال طرح أفكار لتهجير الفلسطينيين، على غرار دعوة وزير الخارجية الإسرائيلي إلى إنشاء جزيرة صناعية في البحر ونقل الفلسطينيّين إليها.
وفي دليل آخر على التمسك بلعب دور الضحية، ذكرت صحيفة «هآرتس» العبرية أن «المجتمع الدولي» يخشى معارضة الجمهور الإسرائيلي لـ«حل الدولتين» نظراً إلى تحوله إلى اليمين بعد 7 أكتوبر، وبالتالي صعوبة قبوله الضغوط من أجل التسوية، واعتباره المفاوضات الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية، في غزة أيضاً، إنجازاً آخر لـ«حماس». ويأتي ذلك بينما حذّر مقرّبون من رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، من احتمال ترسّخ الحرب الحالية في الوعي التاريخي باسم «حرب الاستقلال الفلسطينية». ونقلت الصحيفة عن أحد الديبلوماسيّين الأجانب قوله: «انطباعنا هو أنّ الجمهور الإسرائيلي فقد الثقة في التسوية مع الفلسطينيين، ونحن بحاجة إلى تشجيعه وإظهار أن هناك أملاً في مثل هذه التحركات».