«مجموعةٌ صغيرة من الأرواح المصمّمة، المتأكدة من صلابة معتقدها ومهمتها، يمكنها أن تغيّر مسار التاريخ» (المهاتما غاندي). تستخدم نيري أوكسمان، الجندية السابقة في جيش الاحتلال الإسرائيلي والأستاذة السابقة في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، هذه الجملة التي يمكن تأويلها أيما اتفق؛ كجملةٍ ارتكازية في حديثها عما حدث في غزّة يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) العام الفائت. تستخدم غاندي وأقواله، كما غيرها من متسلّقي الإنترنت وروّاد الأعمال باعتباره «حكيماً»، هذا السلوك دأبت عليه الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية، فهي تُفقد الأصل معناه، ليصبح مفرَغاً من قضيته كما حين تستخدم الشركات الاستهلاكية صورة الثائر الأرجنتيني غيفارا لترويج بضاعتها أو إعلاناتها، وقس على ذلك. استغلّت نيري موقعها ومكانتها لتتحدّث مطولاً ضمن تغريدات وكتاباتٍ وأشعار وأغنيات، عمّا حدث في غزّة مع بداية «الطوفان». استخدمت كل أنواع الأكاذيب والدجل والضغط على مشاعر الآخرين والتلاعب بها... سياسة يجيدها الصهاينة جيداً لتحوير الحقائق وتحويلها. تفقد جملة غاندي معناها أمام أوكسمان وزوجها ويليام بيل أكمان. الأخير ذو قصة لافتة هو الآخر، بدأت مع أحداث «الطوفان». اليهودي الأميركي صارع وكافح وحارب لمحاسبة رئيسة «جامعة هارفارد» السمراء كلودين غاي وطردها من منصبها لأنّها لم تؤيّد قتل الفلسطينيين بما يكفي (للمعلومة هي أوّل امرأة وأوّل شخص أسمر يتولّى هذا المنصب الكبير). لم يكتفِ ويليام بيل أكمان بذلك، بل كان وراء اتهامها بأنّها انتحلت رسالتها للدكتوراه. استقالت غاي، فرحَ أكمان وزوجته بـ «الانتصار». مع ذلك؛ لم يتوقف أكمان عن انتقاد مجلس إدارة «جامعة هارفارد»، فهو اعتبر موقفهم شبه الداعم لغاي حين وافقوا على إبقائها كأستاذة في الجامعة عينها «كارثةً خطيرةً ومستمرة على سمعة الجامعة ومجلسها. إن مكافأتها بمنصب تدريسي مدفوع الأجر يشكل سابقة سيئة جداً بالنسبة إلى النزاهة الأكاديمية في «جامعة هارفارد»». لقد اعتبر أكمان، وخلفه أطرٌ صهيونية كبرى، أنّ مجرد وجود غاي يشكّل خطراً عليهم، مجرد التفكير خارج السرب وسرد رواية غير الرواية شبه الرسمية التي يتداولها هؤلاء... رواية ينتصر فيها الفلسطينيون، أصحاب الأرض، كان أمراً مرفوضاً، من هنا كان توحّش أكمان وتغوّله.
بعد أيام، فجّرت مجلة «بيزنس إنسايدر» المفاجأة بأن أوكسمان نفسها قد قامت بسرقة أدبية في رسالتها للدكتوراه، لا بل إنها نشرتها ونسبتها إلى نفسها، وهو الاتهام نفسه الذي سوّق له أكمان الزوج حول كلودين غاي. اللافت أن أوكسمان اعترفت تقريباً بأنّها فعلت ذلك، مشيرة إلى الصفحات التي كانت المجلة قد أفادت بهذه السرقة الأدبية الموصوفة، فيما غاي التي استقالت من منصبها وتعرّضت لسلوك مشابه لصيد الساحرات، لم تعترف أو تقبل نهائياً هذه الاتهامات التي قد يصار إلى التأكد منها أو نفيها لاحقاً.
لاحقاً، دافع أكمان عن زوجته أوكسمان بالقول إن ما حصل هو «جزء من إنسانيتها، أي إنّها تخطئ» ضمن تغريدة على منصّة «أكس». امتلك أكمان الوقاحة حتى لنقاش مقالة «بيزنس انسايدر»، والتعليق عليها ضمن تغريدة أخرى، مشيراً إلى أنّ زوجته قد أعطيت 90 دقيقة فقط للدفاع عن نفسها أمام مقالٍ يتهمها بالسرقة الأدبية، فيما كلودين غاي حظيت بأسابيع كي تقوم بذلك، ذلك أنَّ «هارفارد» هددت بمقاضاة «نيويورك تايمز» التي نشرت الاتهامات التي وجّهت إلى غاي. لاحقاً شارك أكمان تغريدة نشرها الكاتب الأميركي اليميني كريستوفر روفو يشير فيها إلى أنَّ «الهجوم على أوكسمان جاء لأنها زوجتك». ظل أكمان يمارس جميع ألعاب السوشال ميديا ضمن منطق إضاعة الوقت وخلق تفاصيل هامشية ومقارنات من شأنها تمييع القضية وتسخيفها. مثلاً أشار في تغريدة إلى أنَّ «دليل النزاهة الأكاديمية لـ «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» لم يتطلب الاستشهاد أو حتى ذكر ويكيبيديا حتى عام 2013، بعد أربع سنوات من كتابة نيري أطروحتها واستخدام ويكيبيديا لتعريفات 15 كلمة و/ أو مصطلح». طبعاً حظي أكمان بدعم كثيرين، أبرزهم بالتأكيد إيلون ماسك، صاحب منصّة «أكس» الذي اكتفى بجملة من كلمتين بالإنكليزية: «أنا أنصح بأن ترفع دعوى قانونية». اللافت أنّ أكمان أشار أيضاً إلى أنَّ القصة التي نشرتها «بيزنس إنسايدر» لم تقبلها أربع أو خمس مؤسسات إعلامية. طبعاً علل الأمر بأنها ــ أي القصة المنشورة ــــ لا تراعي الدقة أو الموضوعية. هو لم يشر إلى المؤسسات بالتأكيد، ولكنه كان يلوّح بالعصا الغليظة لجميع المؤسسات المشابهة بأنّه سيلاحقها لو أنّها فكّرت في القيام بذلك.
غرّد نورمان فنكلستين قائلاً: «ويليام أكمان يقول: اليهود لا يسرقون، فقط الملوّنون يفعلون ذلك»


أستاذ العلوم السياسية الأميركي اليهودي المناهض للصهيونية نورمان فنكلستين غرّد حول الأمر قائلاً: «أكمان يقول: اليهود لا يسرقون، فقط الملوّنون يفعلون! كان الملياردير اليهودي ويليام أكمان غاضباً من معارضة طلاب «جامعة هارفارد» للإبادة الجماعية في غزة. لقد كان غاضباً لأنّ رئيسة «جامعة هارفارد» كلودين غاي لم تقمع حق الطلاب في التعديل الأول في التعبير والتجمع. ثم طالب بإقالة غاي لأنها ارتكبت سرقة أدبية. عندما قال ملياردير يهودي بأن الرئيسة السوداء لـ «جامعة هارفارد» يجب أن ترحل، ذهبت. لكن بعد ذلك تم اكتشاف أن زوجة أكمان، وهي ملازم سابق في سلاح الجو الإسرائيلي، إسرائيلية المولد، ارتكبت سرقة أدبية. أكمان يقفز الآن بجنون. يُفترض فقط أن يعاقب الملوّن على تهمة الانتحال. يهدد أكمان الآن بفضح الانتحال بين أعضاء هيئة التدريس في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» (حيث تدرس زوجته). أنا شخصياً أشعر بالارتياح لأن أكمان لم يأمر زوجته بإسقاط قنابل تزن 2000 رطل على المعهد». سخرية فنكلستين لم تكن تستهدف أكمان وحده، بل هي أقرب إلى السخرية من كل هذه الحالة الشديدة التوحّش التي باتت تسيطر ليس فقط على الوجه الإعلامي، بل أيضاً الثقافي والحضاري للغرب بقده وقديده. الإعلامية الأميركية كيم أيفرسون، مقدمة برنامج «كيم أيفرسون شو» كتبت في ردّ على تغريدات أكمان: «كانت زوجتك أستاذة، وهي الآن رائدة أعمال بسبب عملها الأكاديمي. من المحتمل أن تستمر دعوتها للتحدث أو عرض وظائف عليها بسبب عملها الأكاديمي. لقد كنت تلاحق العمل الأكاديمي للناس، ومن العدل أن يطلب منك الناس تطبيق معيار التدقيق نفسه على الجميع بمن في ذلك زوجتك».



غوغائيون وانتهازيون
شنّت رئيسة «جامعة هارفارد» المستقيلة كلودين غاي هجوماً على الذين وقفوا وراء إجبارها على التنحي من منصبها في الجامعة. وأوردت في مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأسبوع الماضي بأنها «طُعنت في شخصيتي وذكائي، وحامت الشكوك حول التزامي بمحاربة العداء للسامية»، مشيرة إلى أنّ بريدها الخاصّ طفح بالشتائم والقدح وبتهديدات القتل. واستقالت غاي من منصبها عقب تعرضها لضغوط وانتقادات بسبب اعتبارها التظاهرات ضد إسرائيل داخل الحرم الجامعي ضمن نطاق «حرية التعبير». ووصفت الذين مارسوا الضغوط لاستقالتها بأنّهم مجموعة «غوغائيين وانتهازيين» يقوّضون مُثُل «جامعة هارفارد» المتمثلة في التميز، والانفتاح، والاستقلالية، والحقيقة، ويستهدفون المجتمع الأكاديمي والعلمي ضمن حرب أوسع لا تنحصر بغاي.