لم تكن «إسرائيل» متهيّئةً لـ«طوفان الأقصى»، وكانت أجهزتها الأمنية مسترخية ومطمئنة، وخاصة أنها استطاعت أن تقيم علاقات مع معظم دول الجوار، وتتطلّع إلى فتح أبواب السعودية أمامها في التوقيت المناسب. الثمن معروف، ألا وهو إنهاء القضية الفلسطينية، وشعب فلسطين وأرض فلسطين من دون ضجة كبيرة، رويداً رويداً، فتهديم بيت من هنا، واقتلاع عائلة من هناك، واستحواذ على أراضٍ تحت حجج مختلفة، واستيطان متواصل يبني الحواجز بين من تبقى من الفلسطينيين، كان كافياً لإنجاز الكيان الصهيوني مشروعه «القومي» الخالص.هجوم حركة «حماس» قام بتكثيف التسجيل الرقمي وتسريعه أمام أعيننا، فلولا شلالات الدم وعملية الإبادة الجارية، لكان العالم قد تكيّف مع مسح فلسطين من الوجود، واستراح معظم حكام العرب من حمل عبء هذه القضية، كما اطمأنت «إسرائيل» إلى أن هذه الأرض هي أرضها التي لا ينازعها عليها أحد.
هول المأساة أصبح واضحاً أمام كل من لديه عينان، وللمرة الأولى تتحوّل «إسرائيل» من مضطهَد وضحية إلى جزّار متوحّش في نظر الشعوب، وخاصة الشعوب الغربية. انتهت قصص الاستعطاف والتمسكن الإسرائيليّين، وحلّت محلّها شريعة الغاب والقوة الغاشمة وأطنان القنابل العمياء التي لا تفرّق بين بريء ومذنب، أو طفل وشاب، أو مدرسة ومعسكر. الكل مذنب حسب العقيدة الصهيونية، فمجرد وجود فلسطين خطيئة يتحتّم محوها إلى الأبد.
في هذه الحالة، وتبعاً لهذا المنطق، لا حلّ إلا باستدامة الحرب. الاختلاف داخل «إسرائيل»، وبين هذه الأخيرة والولايات المتحدة الأميركية، يكمن في طريقة متابعتها. فأميركا تريد حرباً بوتيرة منخفضة شبيهة بما كان يحصل سابقاً: قضم للأراضي بصمت، بحيث لا يستجلب ردات فعل عنيفة، فقط بعض الاعتراضات الشفهية هنا وهناك.
تعيش «إسرائيل» مأزقاً كبيراً بعد «الطوفان»، وهو حقاً طوفان لأنه رمى في أحضانها عدداً من التحدّيات عليها أن تواجهها دفعة واحدة، وهي أعجز من النجاح في مهمتها هذه، بالرغم من الدعم الغربي غير المسبوق، إلى حد الانحياز الكامل دون مواربة أو تورية.
التحدّي الأوّل، هو تحييد الأعداء، فهي غير قادرة على مواجهتهم معاً. في الماضي، تمكّنت من إقامة معاهدات سلام مع مصر والأردن ما سمح لها بالهيمنة في المنطقة، وخاصة مع سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن المشهد تغيّر اليوم، إذ تجد «إسرائيل» نفسها محاطة بحزام «مقاوم» يكبّلها، وقد فُتحت أكثر من جبهة لمساندة فلسطين، فسقط تحييد الجبهات الذي كان يحميها، ويظهرها كأنها قضاء وقدَر لا مفر منهما. هذا الوضع المستجدّ وضع «إسرائيل» وسط حلقة من نار ما دامت هي مستمرة في حربها على فلسطين.
هو حقاً طوفان لأنه رمى في أحضانها عدداً من التحدّيات عليها أن تواجهها دفعة واحدة وهي أعجز من النجاح في مهمتها هذه


التحدّي الثاني، هو فشلها في إنهاء الحرب بسرعة، كما كانت تفعل دائماً، لأن اقتصادها لا يحتمل حرباً طويلة، فهي تضرب غزة بجنون لأنها تريد إنهاء القضية بسرعة، وهذا يتعارض مع حسابات بايدن «الصهيوني» الذي يريد مواصلة دعمها، لكن من دون أن تتأذّى حظوظه في الانتخابات الرئاسية جراء رفض العديد من الأميركيين حرب الإبادة التي تنتهجها «إسرائيل».
التحدّي الثالث، يتمثّل في الانقسامات الداخلية الإسرائيلية بين من يريد تحرير الأسرى، وبالتالي التفاوض مع حركة «حماس»، ومن يريد القضاء على «حماس»، ما أجبر رئيس وزرائها ومجلس حربها على الإعلان أنهما سيتابعان الهدفين، بالرغم من أنهما متعارضان، إذ لا يستطيع نتنياهو التفاوض مع «حماس» والقضاء عليها في الوقت نفسه، وهو في الحقيقة يريد دعماً لمتابعة تهجير الفلسطينيين تحت شتّى الأعذار.
التحدّي الرابع، يتمحور حول تراجع القدرات القتالية للجيش، فمن يحارب الآن هو من أبناء الطبقة الوسطى الذي ينعم برفاهية لم يكن يعرفها من أتى لاجئاً. وقد ظهر ذلك جليّاً في حرب لبنان عام 2006، حيث تبيّن أن إرادة الحرب ضعيفة بين الجنود. سبب آخر في انخفاض العزيمة القتالية لدى الإسرائيلي مردّها إلى أنه يستطيع أن يعود بكل سهولة إلى وطنه الأمّ في أوروبا، وهذا ما لم يكن متاحاً له إبّان الحرب العالمية الثانية بسبب الاضطهاد في ألمانيا، وانهيار أوروبا الاقتصادي. علاوة على ذلك، تقلّصت أعداد الجيش بسبب رفض اليهود المتديّنين الانخراط فيه، والمفارقة أن نتنياهو يترأّس حكومة يمينية متطرفة دينياً، لكن أبناءها لا يحاربون.
التحدّي الخامس، صعوبة إعادة المستوطنين إلى غلاف غزة أو القرى الشمالية لأنهم لا يشعرون بالأمان ما دامت الحرب مستعرة، وهم الذين هاجروا إلى «إسرائيل» توخّياً لحياة أفضل من التي في بلاد المنشأ.
«إسرائيل» تواجه خيارات صعبة لأول مرة في تاريخها القصير. فإن انصاعت إلى رأي الولايات المتحدة، سيعني ذلك الدخول في حرب استنزاف تؤدي بها إلى التهلكة. وإذا تابعت حربها الإبادية المجنونة، فستجلب غضب العالم عليها وتتحوّل من ضحية إلى جلاد يريد القضاء على الفلسطينيين، حينئذ ستُحرج الدول العربية التي فتحت لها الأبواب، وقد تتصرّف شعوبها بما لا يناسب حكامها، كما ستبدو الدول الغربية التي تساندها أنها شريكة في جريمة الإبادة، ما يخسرها مصالحها في المنطقة. وإذا أكملت حربها على قطاع غزة، فسيُقضى على الأسرى، وينتج من ذلك شرخ هائل في الوضع الداخلي.
المنفذ الوحيد هو في إيقاف الحرب، والتفاوض مع «حماس»، والسعي إلى إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، مع احتفاظ المقاومة بجهوزيتها لأن المفاوضات قد لا تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية كما حصل في مؤتمر مدريد منذ ثلاثة عقود، ذلك أن «إسرائيل» ترى أن أي اعتراف بحقوق الفلسطينيين على أرضهم يعني فناءها.

* أستاذة جامعية