لم تطأ قدما معتز عزايزة (مواليد عام 1999) أرضاً خارج غزة... إلا مصر. يا لسخرية القدر. من غزة إلى أرض الكنانة، الرحلة التي يتمنّى الصهاينة لو أنّ معتز لم يعد منها، والتي يسعون إلى إرساله مجدداً إليها، ولكن هذه المرة غصباً وطرداً كما باقي الغزيين... أو إلى العالم الآخر. عاد من مصر إلى غزة. هذه مشكلتهم تحديداً مع الفلسطينيين، إذ إنّهم يعودون دائماً بشكل أو بآخر، إما جسدياً أو كفكرة أو كحلم، أو على شكل فيديو وصورة لا يفارقان الأذهان. يعودون؟ بالأحرى لا يغادرون فعلياً. القصاص لمن لا يغادر، الحبس في السجن الكبير، بين حيطان الفصل والأسلاك الشائكة وكاميرات المراقبة. كاميرات المراقبة؟ من يصوّر من؟ هل يمكن لسجين أن يصور سجانه وينقل فظاعاته؟
في منشور له يعود تاريخه إلى 26 أيار (مايو) 2022، يتحدث معتز عن الصدمة الحضارية التي شعر بها عند زيارته مصر. من جملة الأشياء التي صدمته، سهولة شراء عدسة للكاميرا، إذ يشير إلى أنه «عندما كنت أود شراء عدسة، كان يحتاج الأمر إلى أكثر من أربعة أشهر من الانتظار حتى دخول البضاعة، ومضيفاً إليها أكثر من 400 دولار زيادة للضرائب الإسرائيلية المفروضة».

يتخطّى عدد متابعيه حتى اللحظة 16 مليوناً

400 دولار! كان معتز يشكو حينها من الضريبة المرتفعة. الآن يشكو الصهاينة من بخس هذه الضريبة، وقد يفكرون في رفعها كي لا تتكرر فعلتك يا معتز.
لم يخرج بعدها معتز من السجن. بقي في غزة، ينقل حياة المساجين.
مرعب التجول في صفحة معتز على إنستغرام، والتأمل في الصور، خصوصاً تلك الملتقطة قبل تاريخ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. صور الحياة تخيف أكثر من صور الموت. اعتدنا أن نرى الفلسطيني مقتولاً، ولكن رؤية فلسطيني على قيد الحياة فرحاً يضحك حتى بين ركام المنازل المهدمة، فالأمر صادم، كيف يجرؤون؟
أول ما خطر لي عند رؤية صور الغزيين التي التقطها معتز قبل 7 تشرين الأول، هو التساؤل: ما الذي حلّ بهم؟ من منهم بقي على قيد الموت؟ ومن منهم لم يبقَ منه إلا الصورة والذكرى؟
مرهق التأمل في وجوه تبادلك النظرات ولو عبر صورة. تخجل من كونك مشاهداً. «يا عرب؟» يسأل معتز في فيديو نشره في 14 تشرين الأول (أكتوبر) للغزيين وهم يغادرون بيوتهم وأحياءهم وذكرياتهم قوافل قوافل، مشياً وفي عربات تجرّها الحمير وفي أي وسيلة نقل. سؤال يجيب عنه عبر الأغنية المختارة للفيديو «ماتت قلوب الناس، ماتت فينا النخوة، يمكن نسينا في يوم إنو العرب إخوة».
اشتهر معتز بعد عملية «طوفان الأقصى»، لجرأته في تغطية الإبادة المرتكبة بحق المدنيين في غزة وأسلوبه المتميز الذي يدمج ما بين نقل الواقع المأساوي وفي الوقت عينه الإضاءة على مظاهر الفرح والبسمات التي لا يزال يمكن مشاهدتها بين الغزاويين، خصوصاً الأطفال منهم، معبراً بعدسته عن شخصية الفلسطيني عبر التاريخ، الذي عرف كيف يمزج الألم والأمل.
عدّة هي المرات التي نجا فيها معتز من الموت، وثّقها بعدسته. وإذ لم تنجح إسرائيل في حجب عدسته، فقد أبت إلّا أن تذيقه مرّ الموت بالشخصي، عبر مجزرة ذهب ضحيتها 15 فرداً من عائلته. سقطت العائلة ولم تسقط الكاميرا من يده. حمل كاميرته ومشى، بين الركام والأشلاء لنقل حقيقة الكيان المجرم للعالم، مستفيداً من اللغة الإنكليزية التي يجيدها، ما سمح بنقل رسائله إلى العالم أجمع.
خرق معتز السجن، هدم أسواره بعدسته وفتح المجال للملايين من حول العالم ليستكشفوا غزة التي اعتاد تصويرها وأهلها في يومياتهم وبساطة حياتهم قبل 7 تشرين الأول، وليروا بالعين المجردة كيف حوّلها الكيان الصهيوني إلى مقبرة.
ظلّت إسرائيل تحارب حقّ العودة حتى نقل معتز بكاميرته شعوباً بأكملها إلى فلسطين المحتلة. قفز عدد متابعيه على منصة إنستغرام من حوالى 50 ألف في أول يومين من الاعتداءات الإسرائيلية التي تلت عملية «طوفان الأقصى»، إلى مليون متابع في ثالث يوم. في خامس يوم، وصل العدد إلى مليونين، قبل أن يتخطّى عدد متابعيه حتى اللحظة 16 مليوناً.
حمل كاميرته ومشى بين الركام والأشلاء لنقل حقيقة الكيان المجرم


المحوري في صفحة معتز وصوره، خصوصاً تلك المتّخذة قبل 7 تشرين الأول هي أنها تثبت للعالم أجمع واقع حياة الفلسطينيين في غزة قبل عملية «طوفان الأقصى»، وبأن المأساة لم تبدأ بعد هذا التاريخ بسبب «حماس» وفقاً لما تروّج له المنظومة الإعلامية الغربية والعربية المهيمنة. وثّق في صوره الاعتداءات والمجازر الإسرائيلية المرتكبة بحق الغزيين في شهرَي أيار (مايو) وآب (أغسطس) 2022، وشهري أيار (مايو) وحزيران (يونيو) من عام 2021.
كذلك تبرز أهمية منشوراته التي سبقت عملية «طوفان الأقصى»، بأنه حرص دائماً على تضمين صوره شروحات تبيّن واقع الحياة في غزة لمن لا معرفة دقيقة له حول الموضوع. ومنها على سبيل المثال تذكيره في عدد من الصور الملتقطة لبحر غزة بأنه ملوّث، ولكنّه المتنفس الوحيد للغزاويين... أو عبر صور مسنين فلسطينيين بعضهم فارق الحياة وتضمينه الصور شروحات عن حياتهم وكيف ومن أين هاجروا بعد النكبة... ليشرح بأن عذابات الفلسطينيين تتوارث من الأجداد إلى الأحفاد.
أحفاد رضعوا الصمود والتحدي، وهو ما يسعى معتز إلى إظهاره، وإيصال رسالة بأن القضية الفلسطينية لن تموت، ما دام هنالك طفلاً يحمل فرِحاً كتبه المدرسية من بين ركام منزله المهدم (صورة منشورة في 15 أيار المنصرم)، وصبية تجلس وسط منزلها المهدم فرِحة بعلبة الماكياج خاصتها التي ظلت سليمة (صورة منشورة أيضاً في 15 أيار).
اختارت مجلة Middle East GQ معتز عزايزة رجل العام 2023 تكريماً لعمله الشجاع. بالنسبة إلى كثيرين، فمعتز هو بطل. لكن من يتابع منشوراته، يلاحظ أن معتز لم يبحث عن بطولة وعن شهرة. هو شخص بسيط، يحب التصوير، عبّر في منشور عن دهشته من «القطار في مصر، وركوب الطائرة، والمطاعم والمولات الضخمة، حركة الناس في الشوارع لما بعد العشرة ليلاً في كل يوم وليس في المناسبات فقط»...
معتز فلسطيني، كباقي الفلسطينيين، يريد أن يعيش كإنسان بكرامة وحرية، إذا سُمح له أن يبقى على قيد الحياة.