يختلف الإسرائيليون في تقييم ما حقّقته عملياتهم العسكرية والأمنية منذ 7 أكتوبر. التعبئة العمياء القائمة في كل جسم الكيان، تجعل من الصعب التقاط مؤشرات علنية وكافية على حجم هذا التباين، إذ يبقى هدف وسائل إعلام العدو تغذية العقلية الانتقامية لا أكثر، وإن كان بعض المحترفين من عسكريين وأمنيين لا يقبلون على أنفسهم تهمةَ الإفراط في الدعاية على حساب المنطق. في هذه الحرب، كما في كل ما سبقها منذ عام 2000، يقف العرب والعالم أمام إسرائيل جديدة. ويتضح أن قوى المقاومة في لبنان وفلسطين تعرف، أكثر من غيرها، حجم التغيّر الذي طرأ على إدارة العدو السياسية والعسكرية للحروب. بينما بقي الناطقون باسم جيش الاحتلال يحافظون على سردية واحدة هدفها القول إن جيشهم لا يُقهر.
في العمليات التي جرت منذ عملية «طوفان الأقصى» حصل الكثير. أصيب العدو في عنقه هذه المرة. وغضبه الذي تُرجم جنوناً في القصف والقتل، انعكس أيضاً على قراراته. ولو ترك الأميركيون قادة العدو يقررون وحدهم وجهة الحرب، لكنا أمام وقائع من نوع مختلف. صحيح أن الخسائر عندنا كانت ستكون أكبر، لكن ورطة العدو في الوحل كانت ستكون أعمق. وها نحن الآن، أمام محاولة جديدة من الولايات المتحدة لـ«عقلنة» قيادة العدو، من دون أن تعني بالضرورة منعه من الإيغال في دماء شعبنا، لكنها تحاول أن تمنحه نتائج أفضل. فقد اكتشف الأميركيون، وبقية الوسطاء تغييراً كبيراً في عقائد العدو القتالية، ولا سيما في الجانب الخاص بأسراه، الأحياء منهم والأموات. صحيح أن شعار استعادة الأسرى بقي مرفوعاً منذ اللحظة الأولى، لكنّ جوهر موقف العدو وأفعاله يركّزان على ما هو أهم لإسرائيل، وهو سحق المقاومة. ولو كان العدو واثقاً من أن سحق المقاومة ممكن بكلفة توازي أضعاف ما خسره حتى الآن، لما تردّد لحظة في القيام بكل ما يلزم. لا بل هو يظهر اليوم استعداداً للقيام بذلك، ولو أن جنرالاته تعلّموا من الجولة الأولى بأن عليهم التواضع كثيراً!
الفكرة هي أن اهتمام العدو بملف الأسرى وجثث قتلاه لا يمثل مركز التفكير عنده، بل بات هذا الملف حيلة ضرورية لدى من يريد فرض الهدنة الممدّدة يوماً بعد يوم. والعدو يعرف أن دور المقاومة في هذه الهدن يوازي دوره، وأنها تدير هذا الملف بذكاء لا يقلّ عن ذكاء من خطّط ونفّذ عملية 7 أكتوبر، وبجرأة لا تقلّ عن جرأة من يقود الدفاع المقدّس عن غزة. وبالتالي، فإن إبقاء ملف الأسرى والمعتقلين على جدول أعمال الوسطاء كافة، سيقود مجدداً إلى السؤال الذي يقلق العدو: أي إنجاز نحقّقه إذا استجبنا لطلبات حماس وأطلقنا الآلاف ممن سيتحوّلون إلى آلاف يحيى السنوار، وسيقودون في اليوم التالي عمليات جديدة ضدنا؟
عندما يرفض العدو المقايضة الشاملة فهو يكرّس التغيير في درجة اهتمامه بمصير المفقودين من مواطنيه، الأحياء منهم أو الأموات


خشية العدو من هذه النتيجة تمثّل العائق الكبير أمام المضيّ في صفقة شاملة الآن، إذا لم يقدّم حياة أسراه أو جثث جنوده على أي شيء آخر. بهذا المعنى، يمكن فهم ما يسرّبه العدو في إعلامه، أو ما يقوله في المفاوضات الجارية، من أنه لا يهتم الآن باستعادة جثث قتلاه، وأنه يهتم بالأحياء فقط، لكن مقابل أثمان محدودة.
وما تكشفه المفاوضات أن العدو يصرّ أيضاً على تحميل حركة حماس، وحدَها، المسؤولية عن كشف مصير كل الأسرى أو المفقودين الإسرائيليين داخل القطاع. وفي كل الاتصالات، يرفض العدو سماع تبريرات حول وجود أسرى لدى مجموعات أخرى من المقاومة، ولا يجد نفسه معنياً بفكرة أن مدنيين فلسطينيين، نقلوا يوم 7 أكتوبر إسرائيليين إلى داخل القطاع. علماً أن حماس، بذلت وتبذل الجهد الكبير، لإنجاز عمليات التبادل وفق القواعد المعمول بها حتى الآن. وهي تقوم بكل ما يتيح زيادة عدد المحرّرين من سجون العدو. وهي حكماً، كما بقية فصائل المقاومة، ستبذل كل الجهد من أجل الوصول إلى تبييض السجون كما أعلنت بعد عملية 7 أكتوبر. ولذلك، تبدي استعداداً لإتمام فوري لصفقة شاملة، تقضي بالإفراج عن جميع المقاومين مقابل تسليم العدو كل ما في حوزة الفصائل في القطاع.
لكنّ العدو، كما يقول، وكما يقول الأميركيون، ليس مستعداً لدفع هذا الثمن. وهو لا يريد إفراغ السجون من المعتقلين، بل يعمل دون توقف على رفع أعدادهم، إذ اعتقل خلال 56 يوماً أكثر من 3215 فلسطينياً، ليلامس العدد الإجمالي اليوم أكثر من 8500 معتقل. وإذا ما تمسّك العدو بموقفه هذا، فهو يسير حتماً في اتجاه صفقة ناقصة، سواء قام بها الآن، أو تحت النار كما يقول، لأن الاعتقاد بأن العودة إلى الحرب سيجبر المقاومة على تقديم تنازلات، غير صحيح على الإطلاق. وبالتالي، سنكون أمام مشوار طويل، وطويل جداً، قبل الوصول إلى النتيجة. وحتى لو نجح العدو في احتلال كل القطاع، وأسر الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، فإن قادته سيعودون إلى منازلهم، ليجدوا عائلات بأكملها تسألهم عن مصير أبنائها، الأحياء منهم أو الأموات... وسيكون العدو أمام حلقات جديدة وطويلة من مسلسل أسود حفظه منذ عقود اسمه: رون آراد!
هل تذكرون رون آراد، الطيار الذي أسقط المقاومون مقاتلته فوق جنوب شرق صيدا منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ولا يزال مصيره مجهولاً إلى اليوم؟ من لا يتذكّر، عليه استعادة الأرشيف، بما في ذلك كل الجهود الاستخباراتية التي بذلها العدو، وأنفق عليها عشرات ملايين الدولارات من دون الحصول على جواب كامل. وها هو العدو، يحور ويدور ليجد أن عدداً غير قليل من إخوة ورفاق رون آراد قد باتوا قيد الاختفاء في قطاع غزة!