يوصف النبيّ إبراهيم في القرآن الكريم بأنّه «أوّاهٌ حليمٌ»، وفي موضعٍ آخر يُضاف إلى ذلك أنّه «منيب». وهذه صفات، مع حنيفيّته، تناسب الخُلّة التي كانت بينه وبين الله. شيءٌ من طول الأناة التي كان يتحلّى بها تمثّلاً بالصفة الإلهية نفسها. ويتأكّد المعنى مع ملاحظة أنّ الكلام يرد هنا في معرض وقوع العذاب على أقوام كفرت، فيبدو إبراهيم الذي يستغفر لأبيه في إحدى المناسبات القرآنيّة كأنّه يطلب التريّث والإمهال قبل وقوع العقاب. ولكنّنا نعثر في ذروة الدعوة الإبراهيميّة في مكانٍ آخر من القرآن على خطاب يُوازن تلك الصفات ويصوّب مؤدّاها. فإبراهيم والذين معه، وإن حافظوا على حِلمهم، فإنّهم كانوا قبل ذلك قد «كفروا» بقومهم، وصرّحوا لهم بأنّهم قد ظهرت بينهم «العداوة والبغضاء» أبداً. ولا يصرّح القرآن بخطواتٍ «عنيفة» اتّخذها إبراهيم وأتباعه، لكنّه واضحٌ في أنّ البَينونَة قد وقعت بالفعل بين الجماعتَين في الاعتقاد والعمل (كُفر متبادل إن شئت القول)، ولا رَأبَ لهذا الصدع إلّا بالرجوع إلى الفطرة التوحيديّة الحنيفيّة.ولا شيء يعبّر عن حال شعوبنا مع النفاق الغربيّ تجاه الإبادة في غزّة أصدق من أنّه قد وقعت بيننا وبينهم «العدواة والبغضاء» ذاتها. وأنّ الحنفاء منّا «قد كفروا» بهم حقّاً. ولا رادّ لهذه العُلقَةِ إلّا «عَقد» حضاريّ وفكريّ جديد، فقد تهاوت أصول التخاطب والتفاهم بيننا. والحقّ أنّ هذه الأرضيّة تلاشت مرّات عديدة عبر التاريخ. وفي كلّ مرّةٍ كانت «إنابةٌ إبراهيميّة» من جانبنا تعيد تلك الثقة بشكلٍ ما. والجامع في ما بين كلّ هذه المناسبات هو أنّنا دائماً كنّا، بشكلٍ أو بآخر، في موضع الضعف. الفارق الكبير الذي حدث يوم الطوفان في السابع من أكتوبر هو أنّ الغرب ذاك اختَبرَ للمرّة الأولى منذ أجيال في منطقتنا معنى أن تكون الطرف الأضعف، لا بل مجرّد الإحساس بأنّ الهوّة التي كانت تفصله عن سحق عظامنا بلا مساءلة باتت اليوم أضيق، وستكون أضيق في المستقبل.
لسنا سواء
إنّ منطلقات المستعمر، دولِهِ ومؤسّساتِهِ ونُخَبِهِ الناطقةِ باسمه، تقوم على قضيّة حاسمة يوجبون علينا التسليم لها بإرادتنا أو بغيرها، وهي أنّنا ببساطة لا نولد في هذه الحياة متساوين. وهذه حقيقة لا يعرفها المستعمِرون المستكبِرون معرفةً نظريّةً فحسب، بل يبنون عليها سياستهم ويربّون أجيالهم عليها. وأوّل شركٍ يقع فيه المستضعَف هو أن يظنّ ولو لبرهةٍ أنّه فعلاً يتساوى مع المستعمِر، أو أنّ هذا الأخير يفكّر في ذاته على هذا الأساس. ولا ضيرَ في أن يفهم المستضعَف أنّه لا يتساوى مع مستعمِره في هذا العالم القذر؛ لا في الحقوق ولا في الواجبات. أنا، كمواطنٍ في العالم الثالث، لا أتساوى في المسؤوليّة البيئيّة مثلاً مع الأميركيّ (موطناً ومسكناً) الذي يجترّ الهامبرغر سبعة أيّام طباقاً، ولا مع الألماني الذي يهوى أن يقود سيّارته بلا سقف للسرعة، ولا مع الفرنسيّ الذي ينعم بالكهرباء الرخيصة لأنّ مفاعلاته النوويّة لا تتوقّف عن العمل. لسنا سواء.
في العالم الذي يرسمه الأميركيّون لأنفسهم في مِخيالهم ومخيال شعوبٍ مستلبةٍ لا مكانَ لرجلٍ يقبع في نفق على ساحل المتوسّط ويقرّر ذات صباح أنّه سيُقلِقُ راحة الكوكب، شرقِهِ وغربِه. هذا ليس عالمهم الذي يجمعون المكوس من دمائنا وخيراتنا لأجله. الغرب المستعمِر الذي يقتلك يعرف أنّه يظلمك «بيدٍ جريئةٍ وذراعٍ رفيعة». هو يريد لكَ أن تعرف في قرارة نفسك أنّه هو الذي يُحيي ويميت على هذه الأرض (ومع تغوّل التقنيات، فإنّ أحدهم يظنّ بالفعل أنّ بإمكانه يوماً أن يأتي بالشمس من المغرب). هذه معرفةٌ يجب أن تُزَقَّها زَقّاً منذ الصغر وهو لن يتورّع في أن يوصلها إليك ولو تعلّقت بأذيال مقرّ الأمم المتّحدة في قانا. يريد أن يُفهمك أنّنا لسنا سواء. هو جاء إلى بلادنا أصلاً لأنّه يعتقد في نفسه القوّة والقدرة على تطويع هذه الشعوب وترويضها، فلماذا سينزل إلى حضيضك ما دام يظنّ في نفسه أنّه أقوى منك؟ لو كان هو وآباؤه الأوّلون يظنّون ذلك حقّاً لما كانوا قَضَوا قرنين من حداثتهم يكرعون من دمائنا بلا ارتواء.
ولهذا، فإنّ المنظور الذي يجب أن يحكم علاقتك بهذا الشِّقّ من المعمورة هو الآتي: في نظره وممارساته، أطفاله أهمّ من أطفالك، وحياته أفضل من حياتك، واستحقاقه للحياة أعلى من استحقاقك لها. وعليه، فلا مانع من أن تشرَع أوّلاً في تعويد نفسك على ذلك، ولكن بالاتجاه المعاكس، فترى أنّ موقفك في هذه الحياة، حول أيّ مسألة – طالما أنّنا لم نركن وإيّاهم إلى «كلمةٍ سواء» – يُبنى أساساً على أنّ أطفالك ينبغي أن يكونوا في مقدّمة ما تكترث له. هذا مع كونك «أوّاهاً حليماً منيباً» من قبل أن يخرق عيال زايد للبشرية الاتفاقيات الإبراهيمية.
وحتّى ذاك المتعاطف معك في هارفرد أو لندن، فإنّ عليك أن تسأله، بعد الشكر والتقدير لالتفاتَتِه الحسنة إلى أشلائِنا المعروضة على الهواء مباشرةً: حسناً، يرتكبون إبادةً في حقّنا ويقتلوننا في كلّ يوم. فماذا نحن فاعلون؟ فإن نَعِقَ لكَ بشيء من شرعة حقوق الإنسان كما ينعِق الراعي بالشاة الضالّة، فاعلَم أنّه تنزّل درجةً في اللا-مساواة فحسب، ولكنّه لن يخسر عملاً أو زميلاً أو مقعداً في هارفرد لأجل أن يقرّ لك بالحقّ في الدفاع عن أطفالك بالقوّة. إن شَرَدت عن تظاهرة داعمةٍ لفلسطين في أوروبا مثلاً، وتُهتَ في شارعٍ فرعيّ، ستجد في اليوم نفسه (غالباً في يوم السبت، فهو يوم جميع تظاهرات المواطن الأوروبيّ؛ إذ لا يُسمح له بالتعبير عن رأيه خلال دوام العمل في الشركات التي تموّل قتلنا) بضعة ناشطين، نباتيّين ونباتيّات، يطالبون بلجم شراهة المجتمعات البيضاء في التهام اللحوم الحمراء. وبالطبع، فإنّ أقصى جهد هؤلاء هو الامتناع عن استهلاك اللحوم لا أكثر. المتعاطفون مع قضيّتك من غير اعتراف بحقّك بالمقاومة ليسوا إلّا «النباتيّين» الذين لا يريدون استهلاك لحمك، إن بَقَوا على «نباتيّتهم»، لكنّهم لن يفعلوا أيّ شيء لكَ لتدفع الضيم والذبح عن نفسك وولدك.
في مديح البندقيّة
وأمّا لِمَن لم «يكفر» بعدُ بآلهة الغرب بيننا، فالمعادلة البسيطة التي ثبّتتها المقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا واليمن والعراق منذ عقدَين هي أنّك ما لم تكن في قرارة نفسك إلى جانب الصاروخ البدائي الذي يطلقه الرجل والرجلان بعد أن يُخاتلا طائرة الاستطلاع، فإنّ تضامنك وتعاطفك مع ضحايا القصف بالقنابل الأميركية ليس إلّا نفاقاً ودجلاً؛ وفي الحقيقة فإنّ هذا الكذب لا ينطلي على أصغر طفلٍ تنتشله فرق الإنقاذ من بين الركام. عليكَ أن تعترف بأنّ رهافة شعورك تجاه ملمس أخمص الكلاشنكوف، أو أنَفَة أذُنَيك (غير الموسيقيَّتَين بتاتاً بالمناسبة، ما دام أبو ناصر سائسك الفنّي) من أزيز المسيّرة قُبيل انقضاضها، أو رجاحة عقلك وأنت تفاضل بين جدوى الصاروخ وذلّ التباكي على الشاشات لاستجداء العرب أو استرحام ممثل دولة أوروبيّة في مجلس الأمن، كلّ ذلك ليس إلّا تعبيراً عن خبثٍ فيك قديمٍ يجعلك تستحقر ذاتك أمام «الرجل الأبيض» وترى حياتك وحياة بني جلدتك أرخص من حَيوات ذوي الشعر الأشقر. ولا ضيرَ في ذلك، فأنتَ وضيعٌ وحقيرٌ بالفعل، ولكنّ المشكلة هاهنا أنّك تحاول إقناعنا بالعكس.
ولأنّ ملّة إبراهيم أحقّ بالاتّباع، فإنّنا مقيمون على «كُفرنا» بك وبأسيادك وقد استحكمت بيننا «العدواة والبغضاء». وأمّا النار التي يُحرِّقنا بها نمرود البيت الأبيض فليست إلّا رسل القومِ إلينا لتذكيرنا بذلك. أمّا الخلاص فلا يُرتَجى ممّن تربّى لحمه على الفتك بنا، بل على كلّ «أوّاه حليم منيب» لم يزل يتقلّب بين أوصالنا المتقطّعة. يتخيّره الزمان لنا من بين أكفان الأطفال، ويبقيه حدثان الدهر على قيد المقاومة. ثقتنا في أولئك الذين كُتِب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم يتوارثون حِمل الشهادَة ويتسابقون إلى ردم المسافة بين جنبات الأرض بأشلائهم ونديف جراحهم. يعرجون إلى السماء في عمودٍ من دم ونور، بُراقُه قِلادةٌ في الجيد، وإسراؤُهُ طلقةٌ يشتاقها القلب. ينزلون حفراً نزعوا تُربَها من بين الضلوع، ويرقدون في مُلحَدٍ افترشوه بدموع الأمّهات. أولئك الذين يتناوبون على الحراسة عند باب مغارة أو في فوّهة النفق، وقد ألِفَت عيونهم عتمة الأرض، وتعوّدت جنوبُهم ضَجعَة المربض، يأنسون بِبَردِ حديده في ظلّ الساتِر، ويستبشرون بلهيب ناره يوم الملحمة.

* باحث لبناني