القاهرة | 45 يوماً مرّت على بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، باتت كافية لتأكيد التناقض الواضح في الموقف المصري تجاه ما يجري. أمر يمكن استنتاجه بسهولة من تعاطي وسائل الإعلام المحلية، وخصوصاً تلك المحسوبة على النظام، مع مجريات الأمور في القطاع الفلسطيني المحاصر. وائل غنيم، من أشهر الناشطين السياسيين في مصر، يُنسب إليه التحريض على قيام ثورة يناير 2011. مرّ بتقلبات عدّة حتى استقطبه نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي فعلياً قبل نحو عامين، إذ غادر الولايات المتحدة عائداً إلى القاهرة، حيث يشارك في الأنشطة التي يرعاها «الريّس» مباشرة. غنيم الذي يؤكد كثيرون تعرّضه لاضطرابات نفسية كثيرة، خرج قبل أيام منتقداً قادة حركة «حماس»، وموجّهاً لهم الشتائم بسبب إقامة معظمهم في الخارج و«تعريضهم حياة المدنيين للخطر بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل». إنّه الطرح نفسه الذي يكرّره إبراهيم عيسى عبر شاشة «القاهرة والناس» (الأخبار)، لكن الفارق أنّ غنيم بلا صفة. هو مجرّد ناشط معتزل، أثارت كلماته الغضب إلى حدّ اضطراره للاعتذار، وإن كان عاد لاحقاً وشتم «حماس» عبر منصة X (تويتر سابقاً). حتى صارت حسابات مواقع التواصل الاجتماعي والوجوه السياسية والإعلامية العائدة لكيان العدو تستشهد بأقوال عيسى وغنيم وتصريحاتهما المعادية للمقاومة الفلسطينية.

«معبر رفح» لنضال خيري

اللافت في كلّ ما قيل أنّ متابعي منصات إعلامية مملوكة لـ «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» (تابعة للاستخبارات المصرية)، من بينها جريدة «الوطن» وقناة «إكسترا نيوز»، فوجئوا بعرضها فيديو غنيم الأخير. علماً أنّها المنصات نفسها التي تكرّر بين حين وآخر بأنّ مقاومة الفلسطينيين حق مشروع وأنّ المعتدي الصهيوني يجب أن يتوقف عن ممارساته. لماذا إذاً تبث محتوى يدين «حماس» ويحمّلها المسؤولية، من دون أن يترافق حتى مع حدّ أدنى من النقاش أو التحليل؟ أي إنّه لم تتم استضافة خبراء لتحليل كلام شخص بلا صفة سياسية أساساً. هكذا، تتجلّى «الشيزوفرينيا» التي تحكم العقلية المنظِّمة للخطاب الإعلامي المصري في هذه الحرب: نحن ضدّها لكنّنا لا نستطيع أن نقول هذا علناً ومضطرون لإظهار التعاطف، فنبعث برسائلنا الحقيقية عبر صوتي إبراهيم عيسى ووائل غنيم. هنا، تجدر الإشارة إلى أنّ أيّاً من الإعلاميين المحسوبين على «الشركة المتحدة» لم ينتقدوا «حماس»، بل إنّ الشركة نظّمت زيارة بطائرة عسكرية لمجموعة من نجومها ومديريها إلى مطار العريش كنوع من التضامن الذي لم يفهم أحد ما الهدف منه. ما الفائدة من وصولهم إلى العريش ووقوفهم إلى جانب المساعدات ثم العودة إلى القاهرة مجدداً؟ الهجوم غير المباشر على المقاومة الفلسطينية غير موجّه بالتأكيد للأطراف الدولية، بل للداخل المصري بهدف تخفيف الهجوم الشعبي على الإدارة المصرية للملف. إدارة انحصرت في تقديم المساعدات وتسهيل عبورها فقط إذا وافق الجانب الإسرائيلي على ذلك! هذا ما يفسّر إنتاج وعرض فيلم وثائقي بعنوان «مسافة السكة» لرصد المساعدات التي قدمتها مصر لغزة، حتى قبل أن تنتهي الحرب.
عرض وثائقي «مسافة السكة» لرصد المساعدات التي قدمتها مصر لغزة

لا يتعلق الأمر بالمنّ والتفاخر، كما تصوّر بعضهم، لكنه لا يعدو كونه إبراء ذمّة تجاه القطاع المذبوح. تضاف إلى ذلك إعلان الحملة الرئاسية للمرشّح للانتخابات المرتقبة عبد الفتاح السيسي الداعية إلى التبرّع لمساعدة الفلسطينيين. يتناقض هذا التظاهر المستمر بالدعم الدائم مع كون الرئيس أصلاً لا يحتاج إلى حملة، وأنه لم يعلن عن ميزانيتها. نحن فقط أمام أخبار وفيديوات عن أنّ الدعم المصري للفلسطينيين لا ينقطع، لكن الواقع على الأرض عكس ذلك. على مستوى حشد الرأي العام والسماح بالتظاهر ودعم حملات المقاطعة، النشاط خجول جداً. عاملون في محطات إخبارية، مثل «راديو مصر» و«صوت العرب»، اشتكوا همساً من عدم الموافقة على فتح الهواء لتغطية دائمة لما يحدث في فلسطين. في سياق متصل، تقدّم قناة «القاهرة الإخبارية» التي احتفلت بعامها الأوّل قبل أيام تغطيةً فاترةً، بدليل أنّه نادراً ما نُسب إليها أي تفرّد بخبر. وحتى عندما استشهد مصوّرها في غزة، أحمد فطيمة، أُعلن عن النبأ بعد يومين من حدوثه ومن دون ذكر اسمه!
كلّ ما سبق رسّخ لدى المصريين انطباعاً بأنّ انصرافهم منذ البداية عن متابعة الإعلام المحلي كان صائباً، وأنّ مَنْ يشاركون أخبار «القاهرة الإخبارية» عبر منصات التواصل الاجتماعي هم فقط المرتبطون بالنظام أو بدائرة أضيق تضمّ العاملين في «الشركة المتحدة» فقط، لتتحوّل عبارة «من القاهرة هنا غزة» التي كتبتها بعض الشاشات المصرية إلى مجرّد كلمات تراها العين ولا يصدّقها لا العقل ولا القلب، لأنّ مصر حتى الآن لم تذهب إلى غزة ويبدو أنّها لن تفعل.