حرب الإفناء الإجراميّة التي تقودها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني لا تقتصر على إبادة المدنيّين، وهو ما يبدو الأسهل والأكثر متعةً لقادتها. الإبادة من المنظور الإسرائيلي ومنظور داعميه تشمل أيضاً كتم كلّ صوت يتجرّأ على فضح إجرام الكيان أو حتى انتقاد قادته عموماً، ولو من خارج سياق العدوان القائم حالياً. حتى الكاريكاتور لم يسلم منهم. كتمان الصوت من دون حجب الصورة يبقى ناقصاً. يعرَّف الكاريكاتور بصورة مبسّطة على أنه فنّ ساخر من فنون الرسم، يقوم على المبالغة وتضخيم ملامح شخص أو جسم معيّن وخصائصهما ومميزاتهما وتشويهها، بهدف السخرية أو النقد السياسي والاجتماعي والفني. ويعود أصل تسمية هذا الفن إلى كلمة Caricare الإيطالية التي تعني المبالغة أو تحميل ما لا يُطاق.
رسمة للبلجيكي ستيفن ديغريس، المعروف بـ Lectrr

استناداً إلى هذا التعريف، قد يكون مستغرباً تخوّف إسرائيل ومؤيديها من فنّ الكاريكاتور، الذي جرّدته بأفعالها من جوهره. أيّ مبالغة قادرة على تصوير اللامعقول الإسرائيلي الذي يحدث في غزة اليوم؟ وأيّ فعل أو رسم لا يُطاقان أكثر من ارتكابات العدوّ ومجازره؟ بعد أيام على عملية «طوفان الأقصى»، تلقّى رسام الكاريكاتور البلجيكي، ستيفن ديغريس، المعروف باسم Lectrr، تهديدات بالقتل بعد نشره رسوماً كاريكاتورية تصوّب على الأفعال الإجراميّة للجيش الإسرائيلي ورئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو.
أحد رسومات ديغريس، الذي يعمل بوصفه كاريكاتوريست في صحيفة De Standaard البلجيكية، يصّور اتفاقية جنيف (وما ترمز إليه من حماية المدنيين في وقت الحرب) مطبوعة على ورق التواليت الخاص بنتنياهو. رسم آخر يظهر فأساً على شكل خارطة «إسرائيل» ملطّخاً بالدماء.
ورغم انتشار خبر تعرّضه لتهديدات بالقتل في الصحافة البلجيكية في 13 تشرين الأول الماضي، أي بعد أسبوع على عملية «طوفان الأقصى»، بسبب نشره لعدد من الرسومات موجهة ضد إسرائيل، من بينها الرَّسْمان المذكوران أعلاه، ولكنّ هذه التهديدات لم تردع ديغريس الذي استمرّ ولا يزال في تصوير الأفعال الإجرامية الإسرائيلية عبر رسوماته.
وفي هذا السياق، رسم بعد تلقّيه التهديدات خريطة قطاع غزة على شكل تابوت عليه رمز الصليب. كذلك، تطرّق في أحد رسوماته إلى تصريح «وزير التراث» الصهيوني عميحاي إلياهو الذي عبّر عن «انفتاحه» على فكرة ضرب قطاع غزة بالقنابل النووية. يُظهر الرسم شخصاً يقول لنتنياهو «طبعاً نحن لن نرمي قنبلة نووية على غزة»، ليجيب نتنياهو «نحن نحتاج إلى هذه الأرض للبناء»، في إشارة ضمنية إلى المخطّطات الاستيطانية التوسعية وفكرة تهجير الفلسطينيين والحلول مكانهم.
وفي رسم معبّر نشره يوم الإثنين الفائت، يُظهر الوحشية الإسرائيلية التي لم تعفِ حتى الطواقم الطبيّة وسيارات الإسعاف، رسم ديغريس ثلاث سيارات إسعاف، واحدة عليها علامة الصليب الأحمر وكتب تحتها «بروكسل» (أي إنّ هذا شكل سيارة الإسعاف في بروكسل)، وواحدة عليها علامة الهلال الأحمر وكتب تحتها «إسطنبول»، فيما الأخيرة عليها علامة الهدف المعدّ للقصف وكتب تحتها «غزة». حادثة أخرى ولكن بطلها هذه المرة رسام كاريكاتور بريطاني يهودي يدعى زوم روكمان، انتقد مجلة Private Eye البريطانية الساخرة الشهيرة - التي يعمل معها للمفارقة - بسبب تأديتها لعملها وتوظيفها الكاريكاتور لإظهار الفظاعات الإسرائيلية المُرتكبة في غزة.
وعبّر روكمان عن خيبة أمله من المجلة بسبب نشرها على غلاف عددها الصادر في 18 تشرين الأول، نصاً يقول: «تحذير: قد تحتوي هذه المجلة على بعض الانتقادات الموجّهة للحكومة الإسرائيلية، وقد توحي بأنّ قتل كل فرد في غزة انتقاماً لفظائع «حماس» قد لا يكون حلّاً جيداً على المدى الطويل لمشكلات المنطقة». وتذرّع روكمان الذي استقال من المجلة، بأنّ إدارتها لم تقف إلى جانبه بسبب تهديد تلقّاه عبر منصة X من أحد المستخدمين الذي تمنّى له ولعائلته «ملاقاة حماس شخصياً قريباً»، لتبرير امتعاضه من محتوى الغلاف. ذلك أن إدارة المجلة صرّحت بأنها تواصلت معه فور تبلّغها بالتهديد «لكنه لم يوافق على محتوى الغلاف وفضّل عدم المساهمة في المجلة مجدداً. الأمر متروك له تماماً، لكنه أمر مؤسف بالنسبة إلينا».
صوّر Lectrr اتفاقية جنيف مطبوعة على ورق التواليت الخاص بنتنياهو


دوافع روكمان الحقيقية المؤيّدة لإسرائيل تظهر بوضوح في ما صرّح به للإعلام، قائلاً إنّ «المجلة بالغت في تصوير الموقف الإسرائيلي. لقد صوّروا الأمر على أنه رغبة إسرائيلية، ولديها سياسة نشطة في قتل الجميع في غزة. ولأنّ الغلاف كان حارقاً جداً، واجهت مشكلة معه حقاً، لأنني شعرت أنه سيؤدي إلى مزيد من الهجمات المعادية للسامية». معاداة السامية... التعويذة السحرية حاضرة دائماً. فقد أطاحت تهمة معاداة السامية بأحد أشهر رسامي الكاريكاتور في بريطانيا، ستيف بيل، الذي طُرد من صحيفة «الغارديان» التي عمل فيها لأكثر من 40 عاماً، بعدما رسم كاريكاتوراً يُظهر نتنياهو وهو يرتدي قفّازات ملاكمة ويحمل مشرطاً على بطنه المكشوف الذي رسم عليه قطاع غزة، مع تعليق: «يا سكان غزة، اخرجوا الآن»، في إشارة إلى نواياه بضمّ القطاع. وقد اتُّهم بيل بمعاداة السامية على اعتبار أن رسمه يلمح إلى المقرض اليهودي الجشع «شيلوك» في رواية «تاجر البندقية» لوليام شكسبير، الذي يصرّ على تنفيذ شرطه في الحصول على رطل من لحم «أنطونيو» إذا لم يسدّد له المبلغ في التاريخ المتّفق عليه. لكن الخلفيات الفعلية الحقيقية لإقالته تتكشّف ربما في ما صرّح به بيل لصحيفة Il Fatto Quotidiano الإيطالية. إذ روى بعضاً من السياسات التي تحكم بريطانيا حالياً، وتحديداً حزب العمال المعارض في ما يتعلّق بالصراع العربي الإسرائيلي. في هذا الإطار، أوضح «أعتقد أن صحيفة «الغارديان» أصبحت قريبة جداً من حزب العمّال. لقد كنت عضواً في حزب العمال لمدة طويلة جداً، ولكن ما يحدث في حزب العمال أمر مثير للسخرية تماماً. لقد انضموا إلى وجهة نظر طائفية معينة لما يحدث في الشرق الأوسط. هناك منظمة داخل حزب العمل تسمّى «حركة العمال اليهودية»، تملك وجهات نظر مؤيّدة بشدة للصهيونية، وهي المهيمنة في الوقت الحالي. لقد منحهم كير ستارمر رئيس حزب العمال الفرصة الكاملة، فالأشياء التي يقولها فظيعة، وكانت أسوأ في بعض النواحي من رئيس الوزراء البريطاني الحالي ريشي سوناك. إنه يقول إن من حق نتنياهو تجويع الناس وحرمانهم من المياه، ومعاقبة سكان غزة بصورة جماعيّة، وهذا هراء. هذا أمر مخالف للقانون الدولي. أعتقد أنّ حزب العمال قد أُصيب بالجنون. لكنّ «الغارديان» التقطت أيضاً هذا النوع من الأشياء، لأنّها نوع من الصحف الليبرالية، ولكنها تتحرّك نحو يمين حزب العمال».