غزة | في الأعوام الماضية، تكفّلت اليافطات الإعلانية الكبيرة التي تُحيط بمفترق السرايا الذي يتوسّط مدينة غزة، بتقديم الموقف السياسي لحركة «حماس» تجاه الأحداث المحلّية والإقليمية والدولية. تلك المساحة الإعلانية قُدّمت فيها التحية لشهداء الضفة الغربية، وتبنّت «كتائب القسام» بعض العمليات عبرها، وأدينَ الموقف السياسي لبعض الأنظمة المطبّعة، وأشيدَ بموقف أحرار العالم. وبعيداً من القيمة المعنوية والسيادية للدوار، يكفي القول إن أكثر من 20 ألف طالب جامعي يمرّون عبره للوصول إلى منطقة الرمال الجنوبي يومياً، حيث تجمُّع أكبر جامعات القطاع: «الأزهر»، «الإسلامية»، «الأقصى»، وإن ثلثَي المعاملات الحكومية والتجارية اليومية يقتضي إنجازها مرور سكّان شمال القطاع من هذا الطريق، للوصول إلى مؤسّسات من مِثل الوزارات والبنوك والمؤسّسات التكنولوجية والمؤسّسات الدولية. لا أحد في القطاع، سواءً من محبّي المقاومة أو المحايدين أو حتى الخصوم والمخالفين، استطاع تجرّع صدمة وصول الدبابات الإسرائيلية إلى تلك المناطق العميقة. وحدها المقاومة التي كانت تدرك أن مستوى القصف المهول، لا بدّ من أن يفضي في نهاية الأمر إلى اختراق عميق كهذا، لم يفاجئها ما حدث. غير أن الأهداف الكبيرة التي يرفعها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه، يوؤاف غالانت، ليست عبور حيّز مكاني سيادي فقط، إنما تحريك القوات على الأرض، للعمل الجادّ، وتحقيق أغراض عمليّاتية ملموسة، أو حتى البحث بين بنايات المدينة الضيّقة عن صورة انتصار مشتهاة، مِن مِثل:
1- القبض على قائد حركة «حماس»، يحيى السنوار، أو مداهمة غرفة القيادة والسيطرة التي يقيم فيها.
2- استعادة مجموعة من الجنود الأسرى الذي تستحوذ عليهم الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة.
3- أن يسلّم عدد كبير من مقاومي «القسام» - كتيبة مثلاً -، أسلحتهم أمام الكاميرات، ويخلعوا عن أجسادهم ملابس القتال.
4- أن يَعبر الجنود في داخل أنفاق المقاومة، بل ويشرعوا في تطهيرها ويسيطروا على أسلحة المقاومين.
5- أن يُعتقل عدد من قيادات «القسام» وقيادات حركة «حماس» السياسيين.
6- أن يُغتال المجلس العسكري الأعلى لـ«القسام».
بواحد أو أكثر من تلك المنجزات الميدانية، يحصل نتنياهو، الذي ينتظره مستقبل سياسي غامض، على صورة انتصار من شأنها أن تُعيد ترميم معنويات جيشه المحطَّمة، وتشتري له مزيداً من الوقت في منصبه الحكومي. أمّا المنشود غير المباشر من تقدّم القوات البرّية في عمق الحواضر السيادية، فهو ممارسة أقصى مستويات الضغط الميداني على قيادة المقاومة العسكرية والسياسية، لإجبارها على تقديم تنازلات على طاولة المفاوضات. وفي هذا السبيل، لا تكتفي إسرائيل بالعمل عسكرياً، إنّما تستخدم أسلحة التجويع وارتكاب المجازر وتدمير البنى التحتية والمقدّرات المدنية.
ما يمكن أن يُفهم إلى الآن أن العملية البرية لن تحقّق بأيّ شكل من الأشكال أهدافها العمليّاتية على نحوٍ مباشر


على أن المستوى الأول من «صورة الانتصار»، لا يمكن أن يحقّقه الاختراق العميق في أحياء السرايا والرمال والنصر والعيون فقط، بل إن أمام جيش الاحتلال مهمّة شاقّة جداً، وهي الخروج من الآليات المصفّحة، والعمل على تطهير المباني والأزقة والحارات، والمواجهة المباشرة مع المقاتلين من شارع إلى شارع، وهو ما لم تتجرّأ عليه القوات المتقدّمة في القاطع الغربي من المدينة حتى اللحظة، إذ تحافظ تلك القوات على سلوك جامد جدّاً، وبطيء للغاية، يعطي أولوية قصوى لحماية الجنود من الاستهداف والالتحام.
«نحن نقاتل أشباحاً»؛ ردّد تلك العبارة عددٌ من المحلّلين العسكرين في وسائل الإعلام العبرية، وهي تشي بحقيقة أن «القسام» ليست جيشاً نظامياً، أو قوات صاعقة وتشكيلات يمكن أن يُغتال أو يُعتقل مائة مقاوم من عناصرها في ضربة واحدة. ولذا، فإنّ هدف الإذلال والإخضاع عبر القتال، مُحال أيضاً. أمّا استعادة الأسرى والمخطوفين، فتكفي الإشارة إلى بداية تمهيد إعلام الاحتلال الذي يسيطر عليه الجيش بالكلية، لفشل الجيش البرّي في تحقيق هذه المهمّة، عندما ألمح إلى أن عدداً كبيراً من الأسرى جرى نقلهم، في أوّل أيام الحرب، إلى المناطق الجنوبية من قطاع غزة، أي في المساحة التي هي خارج ميدان العمليات والقتال.
في المحصّلة، ما يمكن أن يُفهم إلى الآن أنّ العملية البرية لن تحقّق بأيّ شكل من الأشكال أهدافها العمليّاتية على نحوٍ مباشر، وأن البحث عن «إبرة» الانتصار في «قشّ» غزة، سيصطدم مع مرور الوقت بجدار الإحباط والعبث، فيما ستكون المقاومة قد استعادت بشكل شبه كلّي زمام الموقف والمبادرة.