غزة | «نحن بخير»، بهذه الإجابة القصيرة يردّ أهالي غزة على من يسأل عن أحوالهم. لا يفضّل الناس هنا الشكوى، إذ ثمّة حواجز نفسية سميكة جدّاً، تحتاج إلى قدْر وافر من التحليل لفهم كنهها: هل هي عزّة النفس، أم خشية على مشاعر الأقرباء والأحباب في الخارج؟ الأكيد أنه لا أحد يتحدّث عن واقع الحال الحقيقي، فيما تختصر تلك الإجابة المقتضبة حقيقة واحدة، هي أن صاحبها لا يزال حيّاً، بمعزل عن ظروف الحياة التي يعيشها. في عيادة «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» (أونروا) التي تتوسّط مخيم جباليا للاجئين شمال غزة، والتي تحوّلت إلى مركز إيواء يسكنه عشرات الآلاف من النازحين، يمكنك أن تدرك أنّ آلاف العائلات تعيش صراعاً حقيقياً على البقاء. هناك، حيث قضى كاتب هذه السطور ليلة كاملة، تكاد تنحصر بهجة الناس في الحصول على غالون واحد من المياه الصالحة للشرب، والتي يقطعون مسافة طويلة لتعبئتها، أو في وصول التيار الكهربائي لساعة واحدة في اليوم، أو في تمكّنهم من تعبئة بضعة غالونات من المياه المخصّصة للنظافة والطهي. «كيف أنتم يا خالة»، نسأل، فتجيب المرأة الستّينية من دون تردّد: «بخير... الحمد لله». تسكن أم خالد التي عملت لأكثر من 30 عاماً مديرة لمدرسة حكومية، مع خمسة عشر من أبنائها وبناتها وأحفادها، في مساحة ضيّقة في محيط مبنى العيادة. إذ تأخّرت في النزوح من منزلها في حيّ تل الزعتر المحاذي للمخيم، وحينما وصلت، كانت كلّ الغرف والمناطق المسقوفة في العيادة قد امتلأت بالأهالي عن بكرة أبيها. تفترش المرأة الأرض، وتحاول أن تجمع ما يحيط بها من أوراق وأخشاب لتطهو حساء البرغل. تقول لـ«الأخبار»: «نستيقظ مع شروق الشمس، إن استطعنا النوم، ويعمل الجميع كخلية نحل، الرجال يذهبون ليأخذوا دورهم عند خطّ الماء الوحيد المتوافر في محيط مركز الإيواء، الصبايا ينظّفون المكان ويجهّزون ما تيسّر للفطور، واحد من الأشبال يساعد في إشعال النار مع مداومة البحث عن أوراق الشجر وبعض الأخشاب لتكفي النار طوال مدّة الطهي». تعيش المرأة برفقة أبنائها حياة لم تتخيّل أن تعيشها في أسوأ كوابيسها. تُظهر طريقة حديثها مستوى راقياً من التعليم والثقافة. تتابع من دون أن نسألها: «أولادي الثلاثة في الخارج، واحد مهندس حاسوب في تركيا، وثانٍ طبيب في ألمانيا، وثالث يدرس الطب في القاهرة، ثلاثتهم هم استثمار العمر، والمنزل الذي دُمّر في منطقة أرض الشنطي هو عرق السنين (...) عندما يتصلون ويسألون عن حالنا، لا نخبرهم بشيء من ظروفنا، نُشعرهم أننا في أحسن حال، وأننا بخير، ليس في ثقافتنا الشكوى، ماذا في وسعهم أن يفعلوا إن علموا أننا خرجنا من منازلنا تحت القصف، وعشنا عدّة أيام من دون طعام؟ لن نزيدهم إلّا قلقاً وشعوراً بالعجز».
لا أحد في صراع البقاء يقيم اعتباراً للمكانة الاجتماعية و«البرستيج»


تساوي الحرب بين الجميع. تدمّر البناء الطبقي للسكّان. لا أحد في صراع البقاء يقيم اعتباراً للمكانة الاجتماعية و«البرستيج». خلف شاحنة المياه الصالحة للشرب، والتي تزور المخيم نادراً، يصطفّ الجميع: أساتذة الجامعات، الأطباء، المعلمون وتلاميذهم، الصحافيون، التجار. حين يفتك العطش بالناس، لا يلتفت إلى ألقابهم ووظائفهم. أزمة المياه هي الأخرى موت يحاذر الناس الوقوع فيه يوماً بيوم. يقول أبو أحمد، وهو أحد مشرفي مركز الإيواء، إن الأزمة تفاقمت بعدما قصفت الطائرات الحربية معظم محطّات التحلية، ثمّ ازدادت صعوبة بعدما فُقدت كل كميات السولار التي تشغّل محطّة التحلية الوحيدة المتبقّية في المخيم. يتابع الرجل: «يشرب الناس المياه المخصّصة للنظافة. المياه النقية اليوم عزيزة جدّاً (...) لن يجد الأهالي بعد أيام سوى الشرب من المياه الملوّثة».
على باب مركز الإيواء، تحدث مصادفات عجيبة. يلتقي الأهالي ببعض ذويهم الذين حسبوا أنهم استشهدوا، ثمّ يتبين أنهم نجوا. «الحمد لله إنك بخير»، يقول أحد الرجال لشاب عشريني بعدما أغرقه بفيض من القبلات. قضى جميع أفراد العائلة في قصف استهدف مربّعاً سكنياً بأكمله في منطقة الفالوجا جنوب المخيم، ولكن أحمد هو الوحيد من أفراد عائلته الذي أخطأه الحزام الناري، بينما هو ينتظر دوره لساعات قرب المخبز الوحيد الذي كان لا يزال يعمل في المخيم. يمكن لك أن تفهم أن الخسائر المادّية صارت هامشاً في تفكير الأهالي. لا أحد يفكّر في ما سيكون عليه حاله في اليوم التالي للحرب، لأنه لا أحد ببساطة يضمن أنه سيكون حينها من أهل الدنيا. يقول الحاج أبو حامد، وقد خصّنا بكأس من الشاي استغرق منه وقتاً طويلاً لإعداده على النار: «الناس يتعزّون بكبر مصائبهم، مَن جُرحه فقْدُ واحد من أبنائه، لديه جار استشهد جميع أفراد عائلته، وأمام الدم، يخجل الجميع أن يذكروا أنهم فقدوا منازلهم وأرزاقهم، وينسون أصلاً تفاصيل صراع البقاء الذي يعايشونه يومياً». شربنا الشاي وهممنا بالمغادرة، لكن الرجل المسنّ استوقفنا قائلاً: «لا تنسَ أننا ندفع ثمن إذلالهم في 7 تشرين، ستنتهي الحرب، ولن تنتهي معالم الهزيمة التي ذاقوها من أذهانهم طوال الدهر... لذا نحن بخير».