أفادت وكالات الأنباء العالمية بأن عشرات المحتجّين اقتحموا مساء الأحد (29 تشرين الأول/ أكتوبر) المطار الدولي في مجمع قلعة، عاصمة جمهورية داغستان الروسية، بعد انتشار الأخبار عن هبوط طائرة قادمة من تل أبيب، على متنها ركاب إسرائيليون. دخل المحتجون إلى مبنى الركاب وهم يكبّرون (الله أكبر) ويُلوّحون بأعلام فلسطين. وصل المحتجون إلى مدرج المطار مجتازين الحواجز والعوائق بحثاً عن المسافرين المستهدفين. بينما تجمهر آخرون خارج المطار يفتشون السيارات. ورفع آخرون لافتات كُتب عليها «لا مكان لقتلة الأطفال في داغستان». غير أن سلطات المطار وضعت المسافرين الإسرائيليين تحت حمايتها، في مكان آمن، بعيداً عن المتظاهرين الغاضبين. لقد عبّر الداغستانيون، وغالبيتهم من المسلمين، عن غضبهم إزاء المذابح اللاإنسانية التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزة. وتصرّفوا بناءً على ذلك غير آبهين بموقف السطات الرسمية. لقد حرّكهم واجبهم الأخلاقي ضد حرب الإبادة والجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة. لم يحتاجوا إلى دعوات رسمية، ولم ينتظروا نداء استغاثة ليُعلنوا عن تضامنهم. فقد بلغ عدد الشهداء في غزة أكثر من تسعة آلاف شهيد بينهم أكثر من ثلاثة آلاف طفل، وأكثر من ألفَي امرأة، والمئات من كبار السن، بينما تجاوز عدد الجرحى عشرات الآلاف من النساء والأطفال والرجال، وفقاً لتقارير وزارة الصحة في غزة وما تنشره وكالات الأنباء التي تغطي الحدث.
لقد صمد الشعب الفلسطيني حتى الآن صموداً أسطورياً بوجه حرب الإبادة التي يقوم بها الكيان الصهيوني برعاية وإدارة أميركية مباشرة دون أن يتخلّى عن حقّه في الحرية على أرضه التاريخية. وينبغي القول إن حملات التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني، التي تعم أرجاء العالم، تفضح الجرائم البربرية للعدوان وتعطي فرصة للرأي العام الدولي كي يمارس ضغوطه على الحكومات الداعمة للكيان الصهيوني بوقف العدوان، والعمل على دعم الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه غير القابلة للتصرف وفي مقدّمها حق تقرير المصير وحق العودة للاجئين إلى ديارهم التي شُرّدوا منها عام 1948.
«طوفان الأقصى»، هو عمل عسكري نوعي، نفذته مجموعة فدائية فلسطينية مقاتلة ضد قواعد عسكرية ومواقع لجيش الاحتلال في محيط قطاع غزة، حيث تمت السيطرة على نحو 20 مستوطنة صهيونية على الأراضي المحتلة. وكانت هذه العملية التي جرى لها التخطيط جيداً وبسرية مطلقة، جزءاً من عمل المقاومة الفلسطينية المشروع ضد الاحتلال الصهيوني الذي يفرض حصاراً تاماً على قطاع غزة. لقد مارس المقاتلون الفلسطينيون التكتيكات والأساليب التي يمارسها الصهاينة ضد الفلسطينيين وضد الدول العربية المحيطة، بما في ذلك مباغتة العدو على أرضه. والجدير قوله إن هذه العملية النوعية حطمت وإلى الأبد سمعة الكيان الصهيوني بأنه دولة لا تقهر. غير أن الصهاينة ردّوا على العملية بعدوان عسكري بربري مستهدفين المدنيين في قطاع غزة، ومستخدمين الأسلحة المحرّمة دولياً وعلى رأسها الفوسفور الأبيض، ومواد كيميائية أخرى لم تكشف تفاصيلها بعد، فضلاً عن القنابل الاسفنجية والقنابل ذات زنة 1 طن التي تدمر مساحات واسعة من المباني السكنية، بالإضافة إلى القصف الوحشي للمراكز الصحية والمستشفيات، مثل المستشفى الأهلي المعمداني، ومستشفيات القدس والشفاء، والمدارس مثل مدرسة الفاخورة في جباليا حيث لجأ إليها المدنيون الذين دمرت مساكنهم وممتلكاتهم. يُحاول الصهاينة من خلال حرب الإبادة الوحشية هذه تنفيذ مخططات قديمة لديهم تسعى إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم، وتهجيرهم قسراً إلى صحراء سيناء المصرية.
وما إن انتشرت أخبار عملية «طوفان الأقصى»، حتى سارعت معظم الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، إلى إدانة حركة «حماس» الفلسطينية ووصف ما قامت به بالإرهاب، والأعمال المروّعة وغير المُبررة، غير آبهين بسياسة الفصل العنصري والإرهاب الذي تمارسه سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيين. وتعهدت تلك الدول بتقديم دعم مطلق وغير محدود للكيان الصهيوني وتأكيد حقه في الدفاع عن نفسه. وكأن المُعتدي من حقه أن يعتدي ويُدافع عن نفسه، وأن المُعتدى عليه من واجبه أن يرضخ، وليس من حقه أن يُقاوم أو يدافع عن نفسه. وأكثر من ذلك، قامت تلك الدول بإرسال حاملات الطائرات الحديثة، والأساطيل البحرية، والطائرات العسكرية، وأقمار التجسس، والعتاد الحربي، والأموال للكيان الصهيوني. بينما وجّهوا تهديدات شديدة اللهجة إلى كل من يحاول استغلال الفرصة، وخاصة إيران وحزب الله، وتوسع نطاق النزاع أو مساعدة الشعب الفلسطيني. غير أن هذه المواقف العنصرية الوقحة التي تطلب استمرار حرب الإبادة حتى القضاء على قوى المقاومة، قابلتها مواقف شعبية مُناهضة تطالب بوقف فوري لحرب الإبادة الصهيونية على غزة، وأهلها الذين يعيشون في منطقة تعدّ الأشد اكتظاظاً في العالم، وأصبحت أكبر سجن مفتوح في العالم.
لقد أظهرت هذه الحرب القذرة الوجه البشع والمزيّف للحكومات الغربية ووسائط إعلامها التي تبثّ الدعايات المضادة لحقوق الفلسطينيين، وتنتهك حرية الرأي والتعبير، وتنشر خطاب الكراهية، وتهدّد كل من يحاول أن يرفع صوته ضد الحرب والتضامن مع الشعب الفلسطيني. كما بيّنت هذه الحرب الهمجية مدى ارتباط تلك الدول الوثيق بالكيان الصهيوني الذي يمثّل مصالحها الاستعمارية. لقد خرجت المسيرات التضامنية في معظم دول العالم، من واشنطن حتى سيؤول في كوريا الجنوبية. واحتشد آلاف المتظاهرين في المدن الأميركية، وفي المدن الكندية، والأوروبية في هولندا، وفرنسا، وإسبانيا، وألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، والدنمارك، وتركيا، وفي جنوب أفريقيا، ودول أخرى كثيرة حول العالم مطالبين بوقف الحرب. تحدّى المتظاهرون إجراءات الحظر والقمع التي فرضتها تلك الحكومات على من يتظاهر مؤيداً لفلسطين ومنتقداً الأعمال الإجرامية التي يمارسها الكيان الصهيوني في الحرب على غزة.
لقد خرج المتضامنون إلى الشوارع، وخصوصاً في لندن عاصمة وعد بلفور، وفي واشطن، دعماً لأهالي غزة، منددين بجرائم الإبادة التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد المدنيين العزّل، ومطالبين بوقف المساعدات المالية والعسكرية للكيان الصهيوني، ورفع الحصار عن قطاع غزة وإدخال الطعام، والمياه، والوقود، والأدوية. وطالب المتظاهرون أيضاً بتوفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين ضد سياسة العقاب الجماعي والتهجيري القسري. لقد شكّل هذا التضامن الأممي الواسع موقفاً قوياً ضد حرب الإبادة وازدواجية المعايير والشعارات الفارغة حول الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وفضح دور وسائل الإعلام الغربية التي تروّج للرواية الإسرائيلية والمتعامية عمّا يحدث من جرائم في قطاع غزة المحاصر.
وينبغي القول إن الكثير من القوى والأحزاب السياسية في العالم أعلنت دعمها للمقاومة الفلسطينية، واعتبرت أن عملية «طوفان الأقصى» تتحمّل مسؤوليتها «إسرائيل» وسياساتها القمعية، وأن الهجوم هو رد فعل طبيعي لأي حركة مقاومة. ولم يقتصر الأمر على المواطنين، حتى إن الأمين العام للأمم المتحدة لم يستطع كبح جماح غضبه إزاء ما يجري، وندّد بحرب الإبادة واستهداف المستشفيات ومحاصرة المدنيين من أطفال ونساء وحرمانهم من المساعدات، وحمّل الكيان الصهيوني المسؤولية عمّا يجري، وقد تعرّض لحملة صهيونية عنصرية تطالبه بالاستقالة بسبب مواقفه الصريحة.
بالإضافة إلى هذه المواقف الجريئة، اتخذت بعض الدول مواقف أكثر جرأة في إدانة العدوان الصهيوني على غزة، مثل بوليفيا، التي قطعت علاقاتها بالكيان الصهيوني، هذه الدولة في أميركا الجنوبية حيث قتلت المخابرات الأميركية الثائر الأممي أرنستو غيفارا عام 1967، أمّا في العالم العربي والإسلامي، فحدّث ولا حرج. فقد شهدت عدة دول عربية وإسلامية، مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب والعراق والأردن ولبنان والكويت وغيرها، خروج التظاهرات الشعبية العارمة للتضامن مع الشعب الفلسطيني، والتنديد بالضربات الإسرائيلية على قطاع غزة. لقد تحرّكت الجماهير العربية في عدد كبير من المدن، وفي مدن أخرى لم تصلها أصوات انفجارات القنابل الفراغية وعويل الضحايا من الأطفال والنساء الذين نزحوا إلى المستشفيات والمدارس. ارتفعت الأصوات في كثير من المدن العربية مطالبة بفتح المعابر البرية لإرسال المساعدات الإنسانية وتقديم الدعم للمقاومة في معركتها، ووقف التطبيع وطرد سفراء الكيان الصهيوني. لكن ظلت هذه الأصوات محدودة، وكأن لا أحد يسمع. وحالهم حال الشاعر الذي قال «أسمعت لو ناديت حياً...». ولا شك أن المشاهد التي تبثها شاشات التلفزة عن الدمار الهائل، والمجازر اليومية، وصور الأطفال والنساء تحت الأنقاض، أو الأهالي وهم يحملون أشلاء أطفالهم، إنما هي مشاهد محزنة ومؤلمة، تجعل النساء الفلسطينيات يصرخن، ويناشدن أصحاب الضمائر من القادة والزعماء، لكن دون جدوى. وكأن النخوة التي عُرف بها العرب منذ الجاهلية قد تلاشت، وتبخرت في غياب الماضي، ولا من يلبي النداء، غير أن الفلسطينيين أدركوا في هذه الحرب ومن تجاربهم السابقة، أن زمن «وامعتصماه» قد ولّى، ولم يعد له أيّ صدى، ولن تفيد مناشدات الأطفال ولا النساء. وكما قال الشاعر «على قدر أهل العزم تأتي العزائم». وربما يجدر القول هنا، إن خطبة الجهاد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب خير معبر عما يحدث، ويدور حولنا، وكأنها قيلت بالأمس القريب: «أما بعد، فإن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه... فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل... ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً وقُلتُ لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عُقر دارهم إلا ذلّوا فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنّت عليكم الغارات ومُلكت عليكم الأوطان... فيا عجباً والله يُميت القلب ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرّقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً حيث صرتم غرضاً يُرمى يُغار عليكم ولا تُغيرون وتُغزَون ولا تغزون ويُعصى الله وترضون...».
وفي المقام، تطنّ في أذني ما كان يردّده الراحل خالي عوض، الذي هُجّر قسراً من قريته الصفصاف عام 1948، ما بيفلح الأرض إلا عجولها!

* كاتب فلسطيني