لعلّ من أهمّ ما تميّزت به معركة «ثأر الاحرار»، أن قيادة حركة «الجهاد الإسلامي»، وذراعها العسكرية «سرايا القدس»، نجحت، في خلالها، في تقليص مفاعيل الهوّة العسكرية الفاصلة بينها وبين جيش العدوّ، وهو ما تجلّى بوضوح في إدارة المعركة، بعد القدرة على استيعاب الضربة المباغتة المتمثّلة في استهداف عدد من قادة الحركة العسكريين. وعلى الرغم من أن «السرايا» تعمل في مساحة لا تزيد على 365 كيلومتراً مربعاً ويقطنها نحو ثلاثة ملايين شخص، ومع أن ثمّة إطباقاً استخباريّاً وعملياتياً في البر والبحر والجو على هذه المساحة، إلّا أن «الجهاد» أثبتت قدرتها على مواصلة إطلاق الصواريخ وصولاً إلى تل أبيب، وهو ما أظهر محدودية قدرات سلاح الجو في هذا المجال، فضلاً عن قصور إسرائيل عن التعامل مع عمليات إطلاق الصواريخ فيما لو شملت المواجهة حركة «حماس»، فضلاً عمّا لو تدحرجت إلى الشمال. وهكذا، فإن مجريات المعركة، التي وضع فيها الاحتلال كلّ ثقله التكنولوجي والعسكري لمقارعة فصيل تصنّفه أجهزة العدو على أنه الأقلّ عدداً وتجهيزاً بالقياس إلى بقيّة قوى المقاومة، شكّلت صورة مصغّرة عمّا ستبدو عليه إسرائيل في مواجهة كبرى، تتقلّص فيها فعالية القدرات الدفاعية والاعتراضية في مقابل الكمّ الهائل من الصواريخ التي ستنهال على العمق الإسرائيلي، والتي تُقدَّر بالآلاف يومياً. ومن أبرز المؤشرات الدالة في هذا المجال، أن العدو استنجد، في أكثر من مواجهة مع المقاومة في قطاع غزة، بالولايات المتحدة لتعبئة مخزون الصواريخ الاعتراضية لديه بعدما لامس الخطّ الأحمر، فكيف سيكون الحال في مواجهة ترسانة «حزب الله» الهائلة، فضلاً عن المفاجآت التي يحضّرها لمعركة بذلك الحجم، والتي تحتلّ عنصراً رئيساً في عقيدته العسكرية؟
على أيّ حال، ما لا يستطيع العدو أن يتجاهله، هو أنه فشل مجدّداً في ردع «الجهاد» عن تنفيذ ردّها الذي أدّى إلى شلّ نصف الكيان، وإدخال أكثر من مليونَي مستوطن إلى الملاجئ، وهو ما تحوّل إلى مسلَّمة على طاولة صاحب القرار الأمني والسياسي، والذي يجد نفسه مضطرّاً إلى أن يأخذه بالحسبان في كلّ محطة لاحقة. ولعلّ ممّا يجدر التذكير به، هنا، هو أن العدو كثيراً ما كان يدرس خيار استهداف قادة المقاومة في قطاع غزة ردّاً على تزخيم العمليات في الضفة الغربية، أو بعدما يتلقّى ضربات قاسية في الداخل، إلّا أن معركة «ثأر الأحرار» أظهرت أن هذا الخيار لن يمرّ بشكل عابر، بل سيتحوّل إلى تحدٍّ جديد أمام دولة الاحتلال، التي لن تجرؤ بعد الآن على استسهال تحويل القطاع إلى ساحة انتقام. كذلك، نجحت المقاومة في القطاع في أن تثبت أنها ليست معزولة عن معركة الضفة، وأنها جزء لا يتجزأ منها، مترجمةً مفهوم «وحدة الساحات» الذي يخشى العدو من أن يترسّخ كعقيدة في وعي قوى المقاومة، وأن تتطوّر ترجمته العملياتية إلى مستويات أشدّ خطورة.
تؤشّر خشية العدوّ من توسّع المواجهة مع غزة إلى إقراره بالتحوّل الحاصل في معادلات القوة


يُضاف إلى ما تَقدّم أن قيادة العدو، في الأصل، بادرت إلى بدء الجولة انطلاقاً من تقديرات معيّنة لمداها الزمني وساحتها وإمكانية احتوائها، إلّا أن المقاومة استطاعت فرض دينامية عملياتية مغايرة لما خطّطت له إسرائيل، وهذا ما سيَحضر بالضرورة في حسابات الاحتلال لدى دراسته أيّ خيار عدواني مشابه لاحقاً. إذ يُتوقّع أن يكون أكثر حساسية وحذراً من أيّ مواجهة مع غزة يمكن أن تمتدّ أكثر ممّا هو محسوب، وأن تتدحرج إلى مواجهة أكبر. ومع أن العدو وضع تحييد حركة «حماس» كإحدى أولوياته، وتعامل مع تحقّقها على أنه إنجاز لأكثر من اعتبار بما فيها الحدّ من الضغوط العسكرية على الجبهة الداخلية والحؤول دون تدحرجها، إلّا أن هذه الاستراتيجية أدّت، من حيث لم يُرد الاحتلال، إلى كبح جماح اعتداءاته على سكّان غزة، وهو ما أفادت منه «سرايا القدس» ميدانياً، فضلاً عن أن التناغم بين قوى المقاومة، وخصوصاً عبر «غرفة العمليات المشتركة»، ساهم في إفشال تلك الخطّة.
وبالنتيجة، تؤشّر خشية العدو من توسّع المواجهة مع غزة إلى إقراره بالتحوّل الحاصل في معادلات القوة، والذي يجلّيه، أكثر ما يجلّيه، أن إسرائيل التي كانت ولا تزال قوة إقليمية عظمى بمعايير معينة، والتي اعتادت حسم حروب مع جيوش بمئات الألوف، والتهديد بإسقاط أنظمة وتدمير منشآت على بعد آلاف الكيلومترات، تقف في مواجهة فصيل مقاوم في القطاع المحاصَر، استطاع أن يكون ندّاً لها، ويستهدف مدنها و«عاصمتها»، ويضع الملايين من «سكّانها» في الملاجئ.