في الذكرى الـ75 لقيامها المشؤوم، لا تبدو دولة الاحتلال في أحسن حالاتها البتّة؛ إذ إلى جانب التهديدات المتعاظمة في بيئتها الاستراتيجية، ثمّة تهديد، قد يكون أشدّ خطورة، محدقٌ بها من الداخل، ولا يفتأ يهزّها ويقرّبها أكثر فأكثر من حافّة «حرب الإخوة» التي يخيّم كابوسها على النُخب الإسرائيلية. صحيح أن طرفَي الصراع قد يتوصّلون في نهاية المطاف إلى «ربط نزاع» مؤقّت يجنّب الكيان نزالاً سياسياً وجماهيرياً جديداً على غِرار ذلك الذي أعقب إقالة يوآف غالانت، إلّا أن ما تَقدّم لن يعني بحال من الأحوال انتهاء الأزمة، بل هي ستتأجّل فقط، ريثما تتجدّد بصورة أكثر عنفاً وشمولية. ولعلّ ممّا يعزّز تلك التقديرات، هو أن المتديّنين الذي يقودون «الثورة» اليوم، سيتحوّلون في غضون عقود قليلة إلى أغلبية عددية، مع ما يعنيه هذا من فاعلية أكبر وتأثير أوسع نطاقاً
لا تغادر إسرائيل مربّع أزمتها المستمرّة منذ أشهر، حيث تتعثّر الحلول، وتتضاءل فائدة التسويات المؤقّتة، فيما تأجيل الاستحقاقات الصعبة يفاقم الأزمة ويزيدها استفحالاً. في عامها الـ 75، لم تَعُد إسرائيل قادرة على إدارة خلافات مكوّناتها الاجتماعية، أو ما تسمّى القبائل، بعدما استطاعت، حتى الأمس القريب، التحكّم بها من خلال «تفاهمات» جمعت بين التشديد على القواسم المشتركة، واستخدام التهديدات الأمنية في تعزيز «اللُّحمة اليهودية»، في ما يمثّل وصفة أَظهرت نجاحاً نسبياً بالفعل. لكن على طول الخطّ، كان مقدَّراً أن تنفجر هذه الخلافات خلال عقدَين أو ثلاثة، بالنظر إلى أن المكوّن «الحريدي» الديني، وذلك الديني القومي، سيزدادان عدداً وفاعلية وتأثيراً وسطوة، وهو ما سيدفعهما إلى كسر تلك التفاهمات في اتّجاه تغليب أيديولوجيّتهم على الآخرين من اليهود.
في عهد الحكومة السابقة برئاسة يائير لابيد، والتي جمعت كلّ معارضي رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، استشعر هذا الأخير اقتراب التهديد المحدق به، والمتمثّل في إلقائه في السجن وإنهاء حياته السياسية على خلفية اتّهامه بجرائم فساد ورشى، فيما «الحريديم» وجدوا أنفسهم بلا تمويل لمؤسّساتهم ولا عطاءات اجتماعية، مع بروز إمكانية إجبارهم على التجنيد في صفوف الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن إقرار قوانين وإجراءات تلغي جزءاً من مكانتهم وتفرّدهم. أمّا اليمين المتطرّف الفاشي، أو «المتديّنون الصهاينة»، فأعادت الحكومة السابقة تذكيرهم بأن التسويات على «الأرض اليهودية في الضفة» ما زالت ممكنة ولم تُلغَ بالمطلق من قواميس فئات من الإسرائيليين، وبأن إرادة تهويد الدولة وجعلها أكثر تلمودية على حساب الليبراليين والتقليديين من اليهود، لن تَنفذ بسهولة.
هذا الخليط من التهديدات والمخاطر فرَض على المستهدَفين به التعاون في ما بينهم، بما يمكّن نتنياهو من التهرّب من جرائمه، ويتيح للجماعات الدينية على اختلافها فرْض إرادتها عبر قوانين وتشريعات غير قابلة للنقض أو الرفض من قِبَل القضاء، الذي ظلّ، حتى الأمس - ولا يزال إلى الآن -، يفرض سطوته وصلاحيته، ويُبطل أيّ محاولة لتغليب فئة يهودية على أخرى. هكذا، اجتمعت المصالح على سحب صلاحية تعيين القضاة من المحكمة العليا، وتقليص سلطة هذه الأخيرة في النظر في القوانين، وهو ما يمثّل موضع الخلاف ظاهرياً. لكن هكذا خلاف ما كان ليؤدّي، في دولة «طبيعية»، إلى انقسام مِن مِثل الذي تشهده إسرائيل اليوم، والذي ينذر بانزلاقها إلى حرب أهلية، في سيناريو لا يفسّر إرهاصاته إلّا وجود تناقضات عميقة في الرؤى والتطلّعات والأيديولوجيات.
المتديّنون سيصبحون الأكثرية العددية بعد عقدَين أو ثلاثة، وبالتالي ستقوى مكانتهم وقدرتهم على التأثير وخوض المعارك السياسية.


من هنا، يتّضح أن الصراع في جوهره هو على منع أو إتاحة الفرصة لمكوّنات اجتماعية يهودية بفرض إرادتها على فئات يهودية أخرى، علماً أن دُعاة التغيير اليوم يريدون الاستئثار بالسلطة وإنفاذ الحوكمة وفقاً للتلمود، وذلك عبر كسر «السور الدفاعي» المتمثّل في القضاء، فيما المعسكر المقابل يرفض المسّ بالقضاء ويطالب بإبقاء صلاحياته كما هي، منعاً لأيّ تغيير في العقد الاجتماعي المعمول به طوال العقود السبعة الأخيرة. في المعسكر الأوّل، تقف الأحزاب «الحريدية» الدينية على اختلافها، وإلى جانبها المتديّنون الصهاينة (التيّار الديني القومي)، ويضاف إليهم حزب «الليكود» اليميني الليبرالي، برئاسة نتنياهو. أمّا في الثاني، فيتصدّر الليبراليون من أحزاب واتّجاهات مختلفة (يمينية ويسارية ووسطية، وأيضاً تقليدية، بما يشمل جزءاً كبيراً من قاعدة «الليكود»)، وأغلبية نساء إسرائيل وشبّانها، وأيضاً المثليّون الذين باتوا جماعة معتدّاً بها بين الجماعات اليهودية، فضلاً عن اقتصاديين وعلماء اجتماع وصناعيين ودبلوماسيين، ومَن يرتبطون بالخارج بروابط اقتصادية واجتماعية، وكذلك سياسية.
تَمدّد الانقسام، إذاً، في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، وصولاً إلى المؤسّستَين العسكرية والأمنية، حيث تَقدّم خطر انفراط أهمّ ما في الجيش الإسرائيلي وأكثره فاعلية وتأثيراً، وهو منظومة الاحتياط التي تَزايد عدد الرافضين فيها للخدمة، شأنهم شأن عناصر الاحتياط أيضاً في سلاح الجو، والاستخبارات، و«الموساد». أمّا على المستوى الاقتصادي، فتُرجم الانقسام تحذيرات من «مستقبل أسود» ينتظر إسرائيل، في ظلّ هروب الرساميل، ونزوح المؤسّسات والشركات، وانكفاء المستثمرين. هكذا، وصلت الموجة الاحتجاجية إلى مرحلة لم يَعُد معها نتنياهو قادراً على صدّها، ولا سيما بعد قراره إقالة وزير أمنه، يؤاف غالنت (من الليكود)، والذي أراد من خلاله تلقين «الليكوديين» درساً، لكنه عاد عليه بعواقب وخيمة، أجبرته على تعليق خطّة «الإصلاحات القضائية»، من دون إلغائها.
أدّى هذا التعليق إلى تراجع الاحتجاجات، لكنه لم يُنهها، بل إن المُعارضين ينتظرون نتنياهو على «المفرق» كي يعاودوا احتلال الساحات، فيما خيار الائتلاف المستقبلي غير واضح تماماً، على رغم اقتراب انتهاء المهلة المحدّدة لتأجيل التعديلات، والمنتظَر في أوّل أيار. هل يعود الائتلاف بعدها إلى مسار «الإصلاح»، مستدرجاً احتجاجات ستكون هذه المرّة أكبر وأوسع وأشمل؟ أم يتراجع من دون الإقرار بالفشل؟ وما الذي سيكون عليه موقف المعارضة في الحالتَين؟ هل سترضى بانكفاء نتنياهو أم أنها ستطلب المزيد؟ مهما يكن ما سيحدث، فهو لن يلغي الانقسام، الذي راكم طبقات كثيرة إضافية من جرّاء الأزمة الحالية. وعليه، إذا لم يتمكّن المتديّنون، على اختلافهم، من قلب المعادلات الداخلية وفرط العقود الاجتماعية بين اليهود، فستكون إسرائيل على موعد لاحق، في المستقبل غير البعيد، مع تجدّد المحاولة الانقلابية، عندما تكون المكانة العددية لهؤلاء قد تَعزّزت أكثر. في عام 2022، بلغ تعداد الجماعات الدينية في إسرائيل ما يصل إلى 36 في المئة من اليهود، مقابل أكثرية يهودية يتقاسمها العلمانيون والتقليديون غير المتديّنين أو شبه المتديّنين. إلّا أن تلك الأقلّية، التي تتحكّم الآن بالائتلاف الحكومي، مرشَّحة للتعاظم العددي بما يفوق نظيره لدى العلمانيين وغيرهم. ويعني ذلك أن المتديّنين سيصبحون الأكثرية العددية بعد عقدَين أو ثلاثة، وبالتالي ستقوى مكانتهم وقدرتهم على التأثير وخوض المعارك السياسية.
ما بعد الحرب العالمية الثانية، عانت أوروبا من انقسام حادّ أفضى في نهاية المطاف إلى غلبة العلمانية والاتجاه الليبرالي عموماً، على الموروث الديني، الذي لم يكن أصحابه أصلاً مستعدّين للتضحية لتغليب أيديولوجيتهم. أمّا في إسرائيل، الآن، فإن المتديّنين جاهزون لدفع الأثمان المطلوبة لتحقيق مصالحهم وفرض موروثهم، فيما الليبراليون والتقليديون شبه الليبراليين مستعدّون هم أيضاً لتضحية مماثلة. وإذا كانت الليبرالية الأوروبية نجحت في تليين موقف التقليديين وجرّهم إليها، وخاصة أن الجمهور كان قابلاً أيضاً للانخراط في تحوّل كهذا، ففي الحالة الإسرائيلية ثمّة شرخ كبير ومتعاظم، لم يَعُد أطرافه يكتفون بمعادلة: «أعيش كما أريد وأترك غيري يعيش كما يريد»، بل تجاوزوها إلى معادلة: «أعيش وأفرض طريقة عيشي على الآخرين»، وفي حالات أشدّ تطرّفاً: «مصلحتي أيضاً هي أن أضرّ بمصالح اليهود الآخرين».
بالنتيجة، إسرائيل مقبلة على انقسام أكبر، وربّما حرب أهلية، ما لم يقْدم أصحاب القرار على خطوة من شأنها تأجيل الانفجار والسماح بإدارة الخلافات لفترة أطول، وخاصة أن الاتفاق على مشترك كبير غير ممكن. وإن لم تكن «حرب الإخوة» الآن ذات طابع دموي، فستكون مشبَعة باللون الأحمر في المستقبل القريب، ما لم تَرشح حلول ما زال الحديث عنها مبهماً.