يُواصل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي السير قُدُماً في خطّته الهادفة إلى تقويض الجسم القضائي، وإخضاعه لسيطرته، مستكملاً التصويت بالقراءة الأولى على جملة مشاريع قوانين من شأنها، وفق ما يَنظر إليها مُعارضو بنيامين نتنياهو، تهشيم النظام الديموقراطي، وتعميق الشرخ المجتمعي، والدفع بقوّة نحو حافّة الحرب الأهلية. وإذ تبدو هذه النظرة منطويةً على مبالغات إنّما هي لزوم الشدّ والجذب السياسي، فإن ما يَجدر التنبّه إليه أيضاً هو أن زعيم «الليكود» قد يكون في نيّته إجراء مناورة صاخبة بهدف جرّ خصومه إلى مربّع التفاوض، ومن ثمّ الدخول معه في تسوية تقيه شرّ المحاكمة، وتغلّ في الوقت نفسه يد الفاشيين. وأيّاً يكن، فإن الأكيد هو أن إسرائيل تعيش ذروة انقسام متقادم، لن يكون من الممكن بعد الآن لحْمه، بقدْر إمكانية جسْر الهوّة التي سبّبها. وفي وقت تتصاعد فيه الأزمة الداخلية، تنتظر دولة الاحتلال ردّاً يبدو محتوماً على مذبحة نابلس، التي جاءت لتكشف «هُلاميّة» التفاهمات المبرَمة بين رام الله وتل أبيب برعاية واشنطن، وعجْز الأولى عن مفارقة مربّع الوهم، على رغم تلويحها أمس بإلغاء قمّة أمنية مقرّرة في العقبة مع الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر والأردن
أتمّ معسكر رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، خطوته التشريعية الأولى على طريق تغيير طبيعة السلطة في إسرائيل، معمِّقاً بذلك الشرخ مع مُعارضيه، ودافعاً الأزمة الداخلية إلى مزيد من التعقيد الذي يستجلب توقّعات بسيناريوات قد لا تكون دولة الاحتلال قادرة على تجاوزها. خطوةٌ استثارت المُعارضين الذين عدّوها «انقلاباً» يستهدف جعْل النظام القضائي مجرّد «خاتم مطّاطي»، مُحذّرين من تحوُّل إسرائيل إلى «دولة توتاليتارية» تَحكمها جهات وشخصيات وفق أجنداتها الخاصة، التي تشمل من بين ما تشمل فرْض طُرق خاصة في العيش على «الآخر» يهودياً كان أو غير يهودي، وهو ما كانت تحُول «المحكمة العليا» دونه عندما يتعلّق باليهود بوصْفه غير متوافق مع «العدالة والمنطق والمساواة وحقوق الإنسان»، فيما كان لها على الدوام مع العرب شأن آخر لا يتّصل بأيّ من تلك العناوين. اليوم، تتكاثر التحذيرات من خطورة ما سيُفضي إليه أداء حكومة نتنياهو، سواء لناحية تعزيز الانقسام المجتمعي، أو الدفْع نحو هروب الرساميل والاستثمارات، أو التسبّب بملاحقة عناصر الجيش أمام المحاكم الدولية، أو تراجُع مكانة إسرائيل وتخلخُل تحالفاتها، أو الحثّ نحو هجرة معاكسة تُفرغ دولة الاحتلال من مستوطِنيها، أو حتى الوصول إلى «حرب أهلية» باتت الحديث الدائم لعدد كبير من المسؤولين والخبراء ووسائل الإعلام. إزاء ما تَقدّم، يمكن إيراد الآتي:
أوّلاً: ثمّة تسييس واضح في التهجّم على خطّة «الإصلاح القضائي»، على رغم أن هذه الأخيرة من شأنها حتماً الإضرار بالعقد الجماعي غير المكتوب، الذي مكّن مختلف «القبائل» الإسرائيلية من التعايش، وحفِظ للكيان استقراره الداخلي على رغم احتوائه بذور تشظّ كثيرة. ظلّت «المحكمة العليا»، على مدار عقود، وبموجب عُرف ثابت، تَنظر في كلّ التماس يِرِد إليها بشأن قرارات أو قوانين صادرة عن الحكومة أو وزرائها أو «الكنيست» ولجانه أو المؤسّسات التابعة للدولة وكذلك الخاصة، في سلطة موسّعة وغير مقيَّدة قد لا يكون لها مثيل على مستوى العالم.
ثمّة انقسام غير ثنائي متقادم في إسرائيل، تَرسّخ أكثر فأكثر مع مرور الوقت

واستناداً إلى هذه السلطة، لعبت المحكمة دور «الحارس» الذي يمنع أيّ «قبيلة» من تغيير «قواعد الاشتباك» مع «القبائل» الأخرى، أو القفز من فوق سورها الخاص للانقضاض على «الآخرين» والإضرار بهم، وهو ما ينطبق مثلاً على منْعها العلمانيين من فرْض إرادتهم على المتديّنين، والعكس بالعكس. أمّا اليوم، وإذا تمكّن الائتلاف الحاكم من نزْع صلاحية «العليا» في النظر في قوانين «الكنيست»، فسيكون بإمكان الفاشيين والمتديّنين العمل على استصدار قوانين «تلمودية»، لا يقوى العلمانيون وحتى التقليديون من عامّة الإسرائيليين على التعايش معها، مِن مِثل: قطْع الكهرباء وتعطيل المواصلات يوم السبت، الحدّ من المساواة الممنوحة للمرأة على أكثر من مستوى شخصي وعام، تحديد نوع الطعام والملبس وأماكن الاختلاط بين الجنسَين... إلخ. بتعبير آخر، ستصبح الشريعة وأحكامها مقدَّمة على أيّ أمر عسكري يَصدر عن ضابط أو رتيب، كما سيتحوّل الحاخام إلى رئيس أركان بدلاً من رئيس الأركان النظامي، بما لا يستثني الوضع في الأراضي المحتلّة، التي يُراد فرْض أجندة فيها متعارضة مع مصلحة إسرائيل الدولة، وظرفها الداخلي والخارجي.
ثانياً: على خلفيّة ما تَقدّم، يرى العلمانيون أنهم عُرضة للتهديد، في أسلوب عيشهم وتطلّعاتهم واستقرارهم الجماعي والخاص، وهو ما يفسّر تصعيدهم المستمرّ ضدّ الحكومة. لكنّ هذا التصعيد لا يخلو من مبالغات تتجلّى مثلاً في إرجاع كلّ ما هو «سيّئ» على أيّ مستوى من المستويات إلى خطّة «الإصلاح القضائي»، أو التهويل في شأن ما ستستتبعه الأخيرة على مستقبل الدولة.
ثالثاً: ثمّة في ما يَجري الحديث عنه من تداعيات أوجهٌ أخرى يَجدر التنبّه إليه، إذ على رغم كوْن القوانين الجديدة تستبطن تهديداً للديموقراطية، إلّا أنها لن تؤدّي إلى سقوطها. وبالمثل، تبدو العديد من جوانب المعضلة الاقتصادية مرتبطة بضائقة تُعانيها قطاعات كثيرة حول العالم، بما فيها قطاع التكنولوجيا في إسرائيل. صحيح أن هناك أزمة في قطاع «الهاي تك»، وتسارُعاً في تحويل الأموال إلى الخارج، وصرفاً جماعياً لموظّفين وأجراء في الشركات الخاصة، وتراجعاً للاستثمارات الأجنبية، وميلاً لدى مؤسّسات اقتصادية وازنة إلى تقليص وجودها في الكيان، إلّا أن هذه الظاهرة عابرة للدول والقارات، وتقريباً لم تَسلم منها أيّ دولة غربية وغير غربية.
رابعاً: ما حدث إلى الآن هو تصويتٌ بالقراءة الأولى من أصل ثلاث قراءات ملزِمة حتى تَدخل مشاريع القوانين حيّز التنفيذ، علماً أن التجارب تُخبرنا بأن الكثير من المشاريع لم تصل إلى المرحلتَين الأخيرتَين. بالنسبة إلى خطّة «الإصلاح القضائي»، لا يمكن، من الآن، الجزم بمصيرها النهائي، لكن ما يَجدر التنبّه إليه هو أن نتنياهو، الذي يبقى المحرّك الحقيقي للتشريع، يستطيع وقْف هذا المسار في حال توصّله إلى تسوية ما مع الآخرين من داخل «قبيلته» العلمانية، تقيه شرّ المحاكمة التي لا تزال تلاحقه بتهم فساد ورشى. هنا، بدا واضحاً أن رئيس الحكومة يريد تمرير المشاريع بالقراءة الأولى لتحسين موقعه التفاوضي مع المعارضة، وتصعيد الضغوط عليها بهدف حمْلها على خفْض سقف مطالبها، والدخول في نوع من المقايضة معه. لكن، إن لم يَجِد نتنياهو آذاناً صاغية لدى خصومه، وقدّر أن تَبِعات المضيّ قُدُماً في «الانقلاب» على القضاء ستكون محمولة وبالإمكان تجاوُزها، فسيتابع السير في ذلك الطريق، الذي يُحتمل عندها أن يؤدّي إلى تداعيات خطيرة من قَبيل إيقاع إسرائيل في الفوضى أو الاشتباك الداخلي، وهو ما سيضطرّه إلى التراجع والبحث عن تسويات مجدّداً. إلّا أن السيناريو الأخير، المتمثّل في تعطيل المسيرة «التغييرية» التي يقودها حلفاء زعيم «الليكود» من الفاشيين، سيؤدّي إلى خلخلة حكومته، وصولاً إلى احتمال سقوطها، الأمر الذي يضعه مجدّداً تحت ضغط الابتزاز من قِبلهم.
خامساً: على رغم أهمية عدم الوقوع فرائس للمبالغات، إلّا أن ثمّة معطيات حقيقية لا يمكن تجاوزها، أهمّها ما يلي:
- ثمّة انقسام غير ثنائي متقادم في إسرائيل، تَرسّخ أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبات حادّاً وعميقاً إلى درجة لم يَعُد معها قابلاً للحْم، بقدْر ما قد يكون ممكناً جسْر الهوّة ليس إلّا.
- الانقسام بين «الأشكناز» و«السفارد» ما زال قائماً وفق ما أظهرتْه الاحتجاجات الأخيرة، بعدما ظنّ كثيرون أنه كاد يختفي.
- ما يحدث الآن على خلفية «الثورة القضائية» هو نتيجة للانقسام الداخلي وليس سبباً له، وإنْ أدّى الأوّل إلى تغذية الثاني وتنميته.