الانقسام الحادّ سياسياً بات يبيح أيّ وسيلة، مهما كانت قذرة وغير سوية، من أجل نَيل مكاسب ودفْع تهديدات
على أن ثمّة تفاصيل هنا، يَجدر إيرادها لفهم الصورة كاملة، وأبرزها ما يلي:
أوّلاً: تتطلّع القوانين المزمَع إقرارها إلى تخفيض الغالبية المطلوبة لتعيين قضاة «المحكمة العليا»، من سبعة من أصل تسعة، إلى خمسة من أصل تسعة، وهو ما شأنُه تعزيز قدرة الائتلاف الحاكم على التأثير في التعيينات، من دون الحاجة إلى تعيين القضاة مباشرة، أو التدخّل في القضايا المعروضة عليهم. بتعبير آخر، ثمّة سعي إلى تهشيم القواعد التي يقوم عليها تشكيل «المحاكم العليا» في عدد كبير من «الديموقراطيات».
ثانياً: تسعى التغييرات إلى وضع حدّ لصلاحيات «المحكمة العليا» في نقْض القوانين العادية ومنْع تنفيذها، فيما تلك التي تحوز مكانة دستورية - علماً أن لا دستور مكتوباً في إسرائيل - تكون خارج سلطتها أصلاً.
سيعني نجاح الائتلاف الحاكم في تمرير التغيّرَين المذكورَين، انتقال دولة الاحتلال إلى طوْر جديد عنوانه تجريد القضاء من السلطة المطلقة، وإتاحة المجال أمام السلطة التنفيذية للتأثير فيه أو مُوازنة عمله من دون أن يكون تابعاً مباشرة لها، وهو ما يقرّب إسرائيل، من وُجهة نظر البعض، من الحال القائم في «ديموقراطيات» وازنة. لكن هل سيؤدّي ذلك إلى هروب الرساميل والاستثمارات إلى الخارج، أو ملاحقة العسكريين والساسة الإسرائيليين في المحاكم الدولية، أو غيرهما من تبعات لا تفتأ المعارضة تحذّر منهما؟ الحقيقة أن هذا السؤال مغلوط بشكل أو بآخر، فيما السؤال الرئيس، الذي يمكن ترتيب إجابات عليه، يتعلّق بعمق الانقسام، سواء السياسي أو الاجتماعي أو الطبقي أو العرقي، وحدوده ومآلاته، في ظلّ ميل جماعي إلى تقديم «المصلحة الخاصة» على تلك العامّة. في محاولة الإجابة، يمكن رصْد جملة مؤشّرات أبرزها التالية:
1- الانقسام الحادّ سياسياً بات يبيح أيّ وسيلة، مهما كانت قذرة وغير سوية، ليس فقط من أجل نَيل مكاسب ودفْع تهديدات، بل أيضاً من أجل الإضرار بالآخر اليهودي.
2- الانقسام الاجتماعي لا يفتأ يتعزّز بين يهودي متديّن يريد فرْض إرادته على الآخرين، وآخر يريد العيش خارج هذه الإرادة، وهو ما يُترجَم بالفصل بين الجماعتَين، بما يشمل الثقافة وأسلوب الحياة والموقف من التراث والملبس والمأكل والنظرة إلى المرأة والأُسرة وحقوق الإنسان وحرية التعبير، وصولاً حتى إلى المواطنة والدولة والهوية. وفي وجه من وجوه هذا الشرخ، تَبرز عودة الانقسام بين «السفارد» و«الأشكناز»، والذي كان زعم كثيرون أنه انتهى.
3- طغيان الإيديولوجيا على أيّ حسابات أخرى، والسعي لإنفاذها مهما كانت التبِعات، بعيداً من الموازنة المعهودة بين الجدوى والكلفة.
بناءً على ما تَقدّم، يمكن القول إن الصراع الدائر اليوم، والذي تَدخل تعبيراته الاحتجاجية أسبوعها السابع، إنّما هو تعبير عن انفصال عميق متعدّد الأوجه، يتمظهر الآن في الخلاف على «الإصلاحات القضائية» علماً أنه سابق لها، وأنها ليست هي المسبّب له، وفي ذلك فارق جوهري يَجدر التنبّه إليه. هذا الانفصال هو الذي يؤذي إسرائيل، سواء في «مؤسّساتها»، أو حياتها السياسية، أو تركيبها الاجتماعي الذي يضمّ أصلاً بذور تصدّعات، أو مؤسّستَيها العسكرية والأمنية، وصولاً إلى اقتصادها الذي بدأت التبعات السلبية تَظهر فيه، من خلال تردّي قيمة العملة وهروب الاستثمارات والتحويلات بالمليارات إلى الخارج. هل يؤدّي كلّ ما تَقدّم إلى سيناريوات «قاتمة» إسرائيلياً مِن مِثل تلك التي يُحكى عنها راهناً، خصوصاً أن أطراف الصراع يتجاوزون قواعد الاشتباك التي حفظت إلى الآن «سلامة» دولة الاحتلال، بل ومنهم مَن يريد إسقاطها نهائياً؟ التقديرات غير حاسمة، لأن معطياتها غير حاسمة أيضاً ومضلِّلة، وإنْ كانت كلّ المآلات ممكنة.