سيعود بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل وفق نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة، ولكنّ الفرق الآن أن المعسكر السياسي لنتنياهو، الذي سيشكل القاعدة البرلمانية لحكمه، سيكون موزعاً على ثلاثة أقسام، هي: اليمين الصهيوني القومي (حزب الليكود، 32 مقعداً من أصل 120 عدد مقاعد الكنيست) واتجاه الصهيونية الدينية (الحزب الصهيوني الديني، 14مقعداً) وأحزاب المتدينين اليهود (حركة شاس، 11مقعداً، وهي حركة تستند إلى قاعدة من اليهود الشرقيين/السفارديم، وتحالف يهود التوراة المتحدين، 7 مقاعد، وهو يضم حزب أغودات يسرائيل «اتحاد إسرائيل» وحزب ديكل هاتوراة «راية التوراة»، ويستندان إلى قاعدة من اليهود الغربيين/الاشكناز، وهذا التحالف للحزبين الأخيرين لا يعتنق الصهيونية، ولكنه يتعايش معها، وقد ظل حزب أغودات يسرائيل، الذي انشق عنه ديكل هاتوراة عام 1988، لا يدخل في الائتلافات الحكومية حتى التسعينيات مكتفياً بمنصب رئيس لجنة المال بالكنيست، مقابل تأييده البرلماني للحكومة). هذا التشكيل الحكومي المستند إلى الاتجاهات الثلاثة المذكورة سيكون الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة إسرائيل، حيث يجمع يميناً صهيونياً قومياً متشدّداً يحمل تراث فلاديمير جابوتنسكي ومناحيم بيغن وإسحق شامير، إلى اتجاه صهيوني ديني، كان جنينه الأول الحزب الديني القومي (المفدال) الذي مزج الصهيونية كحركة قومية مع اتباع قانون التدين اليهودي الحرفي (الهالاكا) عند اليهود المتدينين. وكان هذا الحزب ينصبّ همه من الاشتراك في الحكومات الإسرائيلية على تشريع قوانين تخص «حرمة العمل يوم السبت» أو «الطعام الحلال» (الكوشير) أو «تمويل مؤسسات التعليم الديني» (الياشيفا)، وإن كان بدأ بالتطرف السياسي مع رعايته لبداية الحركة الاستيطانية في الضفة الغربية بالسبعينيات عبر حركة «غوش أومونيم» (عصبة المؤمنين). ثم امتزج هذا الاتجاه الصهيوني مع حركات قومية صهيونية يمينية كانت أكثر تشدداً من «الليكود»، مثل حركة «ميلوديت» (الوطن الأم) التي أسّسها الجنرال الإسرائيلي المتقاعد رحبعام زئيفي عام 1988 ونادت بترحيل العرب بين البحر والنهر إلى شرق نهر الأردن. وعملياً لم يكتسب هذا الاتجاه الصهيوني الديني، بالتوازي مع صهيونية يسارية عمالية (حزب العمل) وصهيونية يمينية قومية (الليكود) وصهيونية علمانية (حركة شينوي- التغيير، وحزب ميريتس)، شكله وقوامه سوى منذ عام 1998 عندما انشق «حزب تكوما» (الوثبة) عن «المفدال» وأسّس تحالف «الاتحاد القومي» مع «ميلوديت»، ليكون مزيجاً من التطرف الصهيوني القومي الأقصى مع الاتجاه التديني اليهودي الحرفي. وقد تغذى هذا الاتجاه لاحقاً من آتين من حركة «مئير كاهانا» الصهيونية المتطرفة (كاخ- رابطة الدفاع اليهودية)، كانوا قد أسسوا حركة «أوتسما يهوديت» (العظمة اليهودية) في عام 2013، ومنهم المحامي إيتمار بن غفير، وهو من أصول عراقية. ظل هذا الاتجاه يصعد ويهبط ويدخل في تشكيلات وأسماء متعددة حتى عام 2021 عندما اتحدت «أوتسما يهوديت» مع «تكوما» وحركة «نوآم» (النعمة) المعادية للمثليين في «الحزب الصهيوني الديني» بزعامة بيزاليل سموتريتش (ولد في مستوطنة بالجولان ويعود لأصول أوكرانية من والد حاخام) الذي نال أربعة عشر مقعداً في انتخابات الكنيست الأخيرة، ليكون القوة السياسية الثالثة في الكنيست.
بالتوازي، سيشكل المتدينون اليهود، بفرعيهم السفاردي في شاس والأشكنازي في «يهود التوراة»، الضلع الثالث لحكومة نتنياهو القادمة، وهم إن نالوا مطالبهم المطلبية والفئوية، ومنها مطلبهم بتحديد أن «اليهودي من كانت أمه يهودية» وليس كما هو معمول به في إسرائيل، «من كان أحد أجداده من اليهود»، ما سيجعل نصف مليون إسرائيلي، في حال تبنيه، خارج الديانة اليهودية، فهم لن يعارضوا التشدد السياسي المتطرف ضد الفلسطينيين والعرب عند شركائهم الحكوميين.
يلاحظ هنا عدة ظاهرات؛ اختفاء الصهيونية العلمانية مع عدم استطاعة حركة «ميريتس» الوصول إلى نسبة الحسم للتمثيل في الكنيست (3,25% من عدد أصوات المقترعين) ووصول اليسار الصهيوني العمالي ممثلاً في حزب العمل بالكاد إلى ما فوق حافة التمثيل (3,69%)، فيما علمانية أفيغدور ليبرمان في حزب «إسرائيل بيتنا»، وله ستة مقاعد، ذات طابع فئوي خاصة بوضعية المهاجرين اليهود الروس لإسرائيل في التسعينيات، الذين يخشى الكثير منهم أن تجردهم الأحزاب الدينية، بفرعيها الديني التقليدي والصهيوني الديني، من يهوديتهم إن طبقت عليهم مقاييس المتدينين لتحديد «من هو اليهودي؟»، وهو نزاع موجود منذ تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. الظاهرة الثانية، أن حكومة نتنياهو القادمة، بقاعدتها البرلمانية من 64 مقعداً، سيكون نصفها فقط لـ«الليكود» والنصف الثاني للصهيونية الدينية ولأحزاب المتدينين اليهود، وهي وضعية
ستجعل نتنياهو أسيراً لهذين الاتجاهين أو لأحدهما. الظاهرة الثالثة أن الصهيونية الدينية، كاتجاه سياسي صاعد في إسرائيل، تستند أساساً إلى فئة الشباب وخاصة جيل العشرينيات، ولها قاعدة واسعة بين اليهود المنحدرين من والدين أتوا من البلاد العربية، وهي اتجاه عنصري يعادي العرب والمسلمين ويميل إلى ترحيل (ترانسفير) حتى عرب 1948 ولو تحت قناع «من هو معادٍ لدولة إسرائيل»، وإلى السيطرة على المسجد الأقصى، وإيتمار بن غفير يضع صورة باروخ غولدشتاين في منزله وهذا هو الذي قتل عشرات المصلين عام 1994 بالمسجد الإبراهيمي في الخليل.
أمام كل ما سبق، يجب على العرب أن يطرحوا سؤالاً رئيسياً بعد انتخابات 1 تشرين الثاني 2022 للكنيست الإسرائيلي: لماذا يصعد التطرف إلى درجات قصوى عند غالبية كبرى من مواطني دولة إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب، بعد نصف قرن من اعتدال عربي باتجاه الصلح والاعتراف والتطبيع مع إسرائيل بدأ منذ فترة ما بعد انتهاء حرب 1973 عند حكام عرب وعند ياسر عرفات، وكانت مراهنات هؤلاء أن هذا الاعتدال العربي والفلسطيني سيولِد أو يلاقي مثيله عند الإسرائيليين؟ ثم سؤالاً آخر: هل تطرّف الإسرائيليين هذا ناتج عن إحساسهم بالضعف العربي، وعن إيمان الإسرائيليين بأن القوة هي الطريق الوحيد في السياسة، وما دام العرب لا يملكونها فلا يمكن للإسرائيلي أن يعطي شيئاً؟ أم أن هذا التطرف هو تطرف وقائي أتى نتيجة يقين الإسرائيلي أو غالبية كاسحة هناك بأن الاعتدال العربي (والفلسطيني) يقتصر على حكام عرب و«مسؤولين» فلسطينيين وبعض المثقفين فيما معظم العرب والفلسطينيين لا يقبلون ولن يقبلوا بوجود دولة إسرائيل؟

* كاتب سوري