بعد عقود من تَركّز العمل المقاوم المنظَّم خارج حدود فلسطين، أحدثت الانتفاضة الثانية، بنتائجها، نقْلة نوعية في هذا المجال، من خلال تَحرّك كلّ من الضفة وغزة لبناء قوّتهما العسكرية في وجه الاحتلال. وقد شكّلت هذه الانتفاضة محطّة فارقة لناحية عودة فصائل المقاومة، وخاصة الإسلامية منها، إلى البناء التنظيمي، إثر سلسلة طويلة من الضربات الأمنية من قِبَل العدو والسلطة الفلسطينية، قبل «اتّفاق أوسلو» وبعده. إذ استطاعت حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، خصوصاً، إعادة بناء هيكلهما، الذي كان جرى سحْقه قبل الانتفاضة من قِبَل الأجهزة الأمنية الفلسطينية. وتمكّنت الفصائل، في أعقاب تشكيلها مجموعات عسكرية خاصة، من توجيه ضربات كبيرة ومؤثّرة إلى العمق الإسرائيلي، أدّت إلى مقتل أكثر من 1000 جندي ومستوطِن.ويقول مصدر قيادي في حركة «حماس»، لـ«الأخبار»، إن «الانتفاضة الفلسطينية الثانية كانت بمثابة خلاص للحركة من الحملات الأمنية والتضييق الشديد الذي كانت تتعرّض له من قِبَل السلطة»، مضيفاً أن «حماس استطاعت خلال الانتفاضة إعادة بناء نفسها تنظيمياً، بعدما كانت أصبحت مجرّد أفكار في رؤوس قادتها من دون أيّ ترابط مع العناصر». ويَلفت إلى أنه «مع بداية الانتفاضة، كانت لحماس مجموعات عسكرية لا تتجاوز أصابع اليد في مختلف المناطق، ثمّ بدأت بالتوسّع بشكل كبير، من خلال استعادة العناصر السابقين واستقطاب عناصر جدد، لينطلق إثر ذلك عمل الحركة في مختلف الساحات والمجالات، وتنتقل من الخفاء إلى العلن». كذلك، مضت «الجهاد الإسلامي» على الطريق نفسه، بعد خروج عدد من قادتها وعناصرها من سجون السلطة مع اندلاع انتفاضة الأقصى، لتتمكّن الحركة من تنفيذ عدد من العمليات الفدائية المؤثّرة ضدّ الاحتلال وداخل المدن المحتلّة.
مع انتهاء الانتفاضة الثانية، خرج الفلسطينيون بمجموعة من المكاسب


هكذا، لم تَعُد المقاومة، خلال الانتفاضة، مجرّد مجموعات تعمل على استهداف الاحتلال بشكل مباشر، بل باتت هناك وحدات لصناعة القدرات العسكرية وتطويرها والاهتمام بالإمدادات والتدريب، كما أضْحت ثمّة وحدات عسكرية متخصّصة في كلّ منطقة، وغرف عمليات وإدارة وسيطرة للتحكّم بمسار المعارك، الأمر الذي وضع اللبِنة الأولى على طريق تَحوّل المقاومة في قطاع غزة في السنوات الأخيرة، إلى ما يشبه جيوشاً مصغّرة. وممّا ميّز انتفاضة الأقصى، أيضاً، كثرة المواجهات المسلّحة، وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية، وتطوُّر أداء المقاومة وأسلحتها، وتمكُّنها من تصنيع صواريخ لضرب المدن والمستوطنات. وعلى رغم العشوائية التي وسمت إدارة العمليات الفدائية خلال الانتفاضة، إلّا أن المقاومة أدركت، بالنتيجة، أهمّية العمل على بناء هيكل يكون غير قابل للاجتثاث، وخاصة بعد عملية «السور الواقي»، التي أدّت - نسبياً - إلى سحق البناء التنظيمي العسكري للفصائل في عدد من مدن الضفة.
بالمحصّلة، مع انتهاء الانتفاضة الثانية، خرج الفلسطينيون بمجموعة من المكاسب، أبرزها وجود تكتّلات صلبة لا يمكن للاحتلال ولا للسلطة إنهاؤها، وامتلاك المقاومة القدرة على بناء إمكانات عسكرية مؤلمة للعدو وتطويرها، واكتسابها صِفة التنظيم، إلى حدّ أن حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» باتتا، اليوم، قادرتَين على إدارة معارك كبرى مع الاحتلال بشكل منفصل، وهو ما لم يكن متاحاً لهما سابقاً، بل أصبحتا تتحدّيان إرادة العدو فصْل الساحات الفلسطينية.