على رغم أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية أحدثت تغييرات حقيقية في البيئة السياسية والميدان، لا يزال أثرها حاضراً إلى اليوم، وعلى رأسها تهشيم القناعة بـ«حلّ سلمي» مع الاحتلال، وإعادة إحياء برنامج المقاومة الشاملة، إلّا أنها لم تسْلم من انتقادات عنوانها أنها أديرَت بغير هدف استراتيجي، وتَسبّبت بتوجيه ضربات كبيرة إلى المقاومة. ومع أن الانتفاضة أنهت، عملياً، مشروع المفاوضات، وجعلت غالبية الفلسطينيين مؤمنين بأن سلوك طريق «أوسلو» كان خطأً من الأساس، إلّا أنها لم تستطع إخراج «الكيان الفلسطيني» في الضفة الغربية وقطاع غزة من الهيكلة التي أقرّتها «اتفاقية السلام» على المستويَين الإداري والاقتصادي، إذ في الضفة، استمرّ وجود السلطة بأجهزتها الإدارية والأمنية ودورها في «التنسيق الأمني» مع الاحتلال، فيما لم تستطع حركة «حماس»، التي سيطرت على غزة عام 2007، تشكيل هيكل إداري مختلف عمّا ورثته عن «سلطة أوسلو» يتناسب مع طبيعة الصراع، وهو ما أثْقل كاهلها لسنوات وأدّى إلى تراجع شعبيّتها في محطّات كثيرة.

ومن بين الانتقادات التي تُوجَّه إلى انتفاضة الأقصى، هو ذلك المتّصل بالخطأ الاستراتيجي الذي ارتُكب عام 2002، عندما جرى تجميع المقاومين في مخيم جنين، وخوض معركة غير متكافئة كان يمكن تلافيها عبر توزيع المقاومين على المناطق الأخرى وإبقاء جذوة المقاومة حيّة. وقد كانت لهذا الخطأ تبعات خطيرة استغلّتها دولة الاحتلال في عملية «السور الواقي»، ثمّ في استراتيجية «جزّ العشب» الهادفة إلى منع الفلسطينيين من إعادة ترتيب أوضاعهم، وإطلاق عمليات فدائية جديدة. أيضاً، عانت الانتفاضة من غياب استراتيجية واضحة للعمل، فبعد فشل الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، في استثمارها، وإجبار دولة الاحتلال على تنفيذ «اتفاق أوسلو» عبر السماح بإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة عاصمتها القدس الشرقية، فشلت فصائل المقاومة، هي الأخرى، في فرْض برنامجها، والتوحّد في تكتّل بديل على أساس رفض المفاوضات مع الاحتلال. هكذا، وبدلاً من أن يؤدّي ظهور قوى سياسية أخرى إلى إثراء العمل السياسي الفلسطيني وتوسيع دائرة المناورة، شكّل عاملاً مساهِماً في انهيار آفاق العمل المشترك، ليضحي الوضع الفلسطيني موصوماً دائماً بالانقسام.
أيضاً، وعلى الرغم من كثافة الاشتباك مع الاحتلال وضراوته، لم تستطع الانتفاضة ردع قادة برنامج «التعاون» مع الاحتلال في السلطة الفلسطينية، عن المضيّ في نهجهم، إذ إن المقاومة لم تضع أيّ برنامج أو مخطّط لإبعاد هؤلاء، بمبرّر الخشية من الفتنة الداخلية والحرب الأهلية، وهو ما مكّن بعض وجوه «التنسيق الأمني» من تصدّر المشهد الرسمي الفلسطيني في المرحلة اللاحقة. كذلك، يؤخذ على الانتفاضة، التي مثّلت أكبر تحوّل في تاريخ الشعب الفلسطيني، قصورها عن تحويل مسار الاقتصاد من التبعية والانكشاف والهشاشة أمام العدو، إلى الانعتاق والذهاب نحو «الاقتصاد المقاوم»، وهو ما يعود بدوره إلى العجز عن إحداث تغييرات جوهرية في العلاقات السياسية والأمنية مع دولة الاحتلال.
ما سبق لا يعني أن الفصائل الفلسطينية، وخاصة تلك التي تقود برنامج المقاومة (حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية)، تقف في خانة العجز، بل الحقيقة اليوم تقول إن الفصائل الثلاثة باتت تفكّر بطريقة استراتيجية أكثر وعياً، وأضحت تبحث عن طريقة لإنهاء «نفق أوسلو» الذي دخله الفلسطينيون، وذلك عبر السعْي لترتيب كامل للبيت الفلسطيني، وإعادة بناء «منظّمة التحرير» بحيث تضمّ الجميع ولا تكون مرتهَنة للشروط الدولية واتّفاقيات السلطة السابقة مع إسرائيل.