لم يكن طرح «صفقة القرن» معزولاً عن مسارات محلية وإقليمية ودولية سبقته أو تزامنت معه، كذلك لم تكن علاقته بما سبق مجرّد توالٍ لمحطات، بقدر ما شكّل تتويجاً لها، بعدما هيّأت هي المظلّة لفرض وقائع استيطانية وسياسية، في انتظار فرصةٍ تنتجها تحوّلات إقليمية ودولية، لإسباغ «الشرعية» على تلك الوقائع. يمكن ربط «صفقة القرن» بالكثير من المحطات السابقة، وصولاً إلى بدايات المشروع الصهيوني، لكن الأكيد أنها تمثل امتداداً مباشراً لـ«اتفاقية أوسلو» باعتبار الأخيرة إحدى أبرز المحطات المفصلية. منذ انطلاق الانتفاضة الأولى عام 1987، وجدت إسرائيل نفسها أمام مستجدّ استراتيجي فرض عليها البحث عن خيارات بديلة لمواجهته. ولم يكن أمامها، بعدما تحوّلت الانتفاضة إلى عبء حقيقي عليها، إلا التوصّل إلى صيغةٍ ما تخرجها من ورطتها، بالاستفادة من اللحظة الإقليمية والدولية آنذاك، والمتمثلة في انهيار الاتحاد السوفياتي وتدمير العراق.في البداية، وجدت إسرائيل أن لا إمكانية للتوصّل إلى حلول «إبداعية»، في ظلّ مواقف الطرف الفلسطيني الذي كان يطالب بدولة على حدود 67 عاصمتها القدس الشرقية. وهو ما دفع الاستخبارات العسكرية، «أمان»، في حينه (قبل أن تطّلع على مسار أوسلو السري)، الى استبعاد التوصل إلى اتفاق (دراسة صادرة عن مركز تراث الاستخبارات/ إسحاق رابين، اتفاق أوسلو والاستخبارات/ أيار - 2019). لكن، في النهاية تبلور «اتفاق أوسلو» المرحلي بالصيغة التي نشهدها. وبالفعل، كان الاتفاق مرحلياً، لكن في أيّ اتجاه؟ ليس من الصعوبة استشراف معالم المخطط الصهيوني في ضوء نصوص «أوسلو». فقد تمّت بلورة هذه النصوص وفق ثوابتِ أوسعِ شريحةٍ سياسية وأيديولوجية على الساحة الإسرائيلية، عبر الاتفاق على حكم ذاتي، لتكون بهذا متبنّيةً إلى حدّ كبير مفهوم اليمين للتسوية مع الفلسطينيين. ذلك أن الشخصية التي أوجدت مفهوم الحكم الذاتي كصيغة حلّ للقضية الفلسطينية كانت رئيس الوزراء ورئيس حزب «الليكود»، مناحيم بيغن، خلال مفاوضات «اتفاقية كامب ديفيد» مع مصر عام 1978. وفي عام 1991، تبنّى إسحاق شامير في «مؤتمر مدريد» المفهوم نفسه، قبل أن يتحوّل الأخير لاحقاً إلى مشروع لمعسكر اليسار في إسرائيل. أما بخصوص منشأ معارضة «الليكود» ومعسكر اليمين للاتفاق في حينه، فهو على ما يبدو نَبَع من كونه محطة انتقالية في اتجاه تسوية شاملة، ولذا أراد المعارضون قطع الطريق على ما بعده.
لم يكن اختراع تقسيم إداري وأمني وفق المعايير والمصالح الأمنية والسياسية الإسرائيلية عبثياً. فقد فتح هذا التقسيم الطريق أمام سياسات استيطانية وأمنية لاحقة. بحسب «اتفاق أوسلو»، تمّ إخضاع المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية لسلطة أمنية وإدارية فلسطينية، وهو ما عُرف بـ«مناطق أ»، فيما أُخضعت أخرى لسلطة أمنية إسرائيلية وإدارية فلسطينية في ما عُرفت بـ«مناطق ب»، أما «مناطق ج» فهي الخاضعة لسلطة أمنية وإدارية إسرائيلية خالصة. ولم يكن التصنيف الأخير، الذي استهدف قرابة 60% من مساحة الضفة الغربية، عبثياً؛ بل لكونه شمل المستوطنات الإسرائيلية التي توجد فيها أعداد محدودة من الفلسطينيين، وهو ما أشّر إلى مستقبل المخطّط الاستيطاني، بوصفه تجسيداً لمقولة أكبر مساحة من الأرض مع أقلّ عدد ممكن من الفلسطينيين. وما يتم طرحه الآن من عملية ضمّ في «صفقة القرن» هو في هذه المساحة تحديداً، والتي يدعو اليمين الإسرائيلي إلى ضمّها.
تبلور على أرض الواقع، نتيجة «اتفاق أوسلو» وفي ظلّه، مسار وحيد يتمثل في استمرار التمدّد الاستيطاني


في السياق نفسه، أتى ترحيل البحث في القضايا الجوهرية (القدس، اللاجئون، المستوطنات، الحدود...) إلى ما كان يُفترض أنها مفاوضات الوضع النهائي. لكن التدقيق في هذه القضايا يبيّن أن ليس ثمة حزب أو زعيم سياسي إسرائيلي، لا سابقاً ولا لاحقاً، يقبل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة عام 1948. وهو موقف يحظى بإجماع الأوساط السياسية اليهودية (الصهيونية وغير الصهيونية). وبخصوص القدس، تكفي استعادة موقفٍ لإسحاق رابين الذي وقّع على «اتفاق أوسلو» عام 1993، اعتبر فيه أن «القدس ستبقى موحدة، حتى في الاتفاق النهائي» مع الفلسطينيين، في ما يُعدّ مطلباً إسرائيلياً يمينياً بامتياز. وفي ما يتعلّق بالمستوطنات، فقد كان بارزاً جداً في «أوسلو» عدم اشتراط وقف الاستيطان قبل التوصّل إلى اتفاق نهائي، وهو ما أطلق يد الاحتلال في هذا المجال. أما بالنسبة إلى الحدود، فالواقع أن الحدود الوحيدة للضفة هي مع الأردن، إلى جانب كيان العدو. والأخير كان ولا يزال يعلن أنه في أيّ ترتيبات، سيبقى الجيش الإسرائيلي مسيطراً على الحدود مع الأردن لأسباب متعلقة بـ«الأمن القومي» الإسرائيلي. والمطروح الآن هو ضمّ غور الأردن أيضاً إلى إسرائيل، الأمر الذي يتبنّاه نتنياهو ومنافسوه على السواء.
في الخلاصة، حققت إسرائيل، من خلال «اتفاق أوسلو»، أكثر من إنجاز مهّد الطريق للواقع المتشكّل الآن سياسياً واستيطانياً وأمنياً. ومن بين تلك الإنجازات أنها استطاعت احتواء الانتفاضة، وحوّلت السلطة إلى قوة دفاع عن أمنها، وهو ما مَكّنها من مواصلة سياسة فرض الوقائع الاستيطانية، إلى جانب سياسات أخرى تتصل بمختلف المجالات. وهي فعلت ذلك مطمئِنّةً إلى وجود قوة أمنية - سياسية تقع على عاتقها مهمة إحباط أيّ حراك شعبي واسع، أو عمل مقاوم مضادّ. وللتذكير، عندما أخلّ الرئيس الراحل ياسر عرفات بهذا البند، قامت بتصفيته. يضاف إلى ما تقدّم أنه، من خلال الاتفاق، أسهمت إسرائيل في بلورة قيادة سياسية فلسطينية (السلطة) تتبنّى التسوية كخيار وحيد مع الاحتلال، لكن عملياً اتبعت حكومة نتنياهو، ومَن سبقها من الحكومات، تكتيك التسويف والمماطلة، وأغرقت الطرف الفلسطيني بشروط تدرك أنه لا يستطيع الموافقة عليها (الاعتراف بيهودية الدولة)، الأمر الذي أسهم في عرقلة أيّ محاولة للجلوس إلى طاولة مفاوضات نهائية.
هكذا، تبلور على أرض الواقع، نتيجة «اتفاق أوسلو» وفي ظلّه، مسار وحيد يتمثل في استمرار التمدّد الاستيطاني الذي بلغ في الضفة والقدس المحتلّتَين أربعة أضعاف ما كان عليه قبل الاتفاق (ارتفع العدد من حوالي 200 ألف إلى حوالى 800 ألف). أيضاً، تكرّست معادلة مكّنت الطرف الإسرائيلي من وضع السلطة الفلسطينية بين خيارين: إمّا القبول باستمرار الوضع القائم استيطانياً وسياسياً وأمنياً، وإما استمراره مع دفع المزيد من الأثمان السياسية والأمنية والاقتصادية.
في خضمّ ذلك، تبلور مستجدّ أميركي - عربي رأت فيه إسرائيل ظرفاً مثالياً لإضفاء «الشرعية» على تلك الوقائع. وعليه، فإن الأخيرة التي فُرضت بفعل «أوسلو» هي الأهمّ، وليس «صفقة القرن» بذاتها. فحتى لو لم يصل شخص مثل دونالد ترامب إلى الحكم، فالبديل كان استمرار التمدّد الاستيطاني، واستمرار الدور الوظيفي للسلطة وفق ضوابط «أوسلو». بتعبير آخر، «صفقة القرن» لم تنتج وقائع، ولكن شرعنتها أميركياً، على أمل أن يكون ذلك مدخلاً إلى شرعية دولية ما. وليس من الصعوبة التقدير أن رهان تل أبيب وواشنطن الأساسي في ذلك هو على وجود واقع سياسي أمني فلسطيني وعربي يلعب دور الكابح لأيّ انتفاضة شعبية، ومقاومة مسلحة تقلب الطاولة على الطرفين.