ليس مفاجئاً أن تشهد الساحتان الفلسطينية والإسرائيلية تصعيداً في السياق العام للمواجهة، خصوصاً في ظلّ استمرار سياسة التنكيل التي يعتمدها العدو، وتخلّي غالبية المحيط العربي عن الفلسطينيين، والذي لم يثبّطهم عن خيار المقاومة والتصدي للعدوان الذي يستهدف تهويد فلسطين وفرض الاستسلام على أبنائها. أما في السياق الخاص، فإن التصعيد الأخير يأتي نتيجة إصرار الاحتلال على خنق قطاع غزة والضغط على سكانه لإخضاعهم.هذه الجولة، التي وصفها رئيس أركان جيش العدو آفيف كوخافي بـ«الأيام القتالية»، باتت واقعة بعدما أظهرت إسرائيل تصميماً على عرقلة التسهيلات في المعابر، وإجراءات زيادة تزويد القطاع بالكهرباء، امتداداً إلى بقية جوانب الحصار، إلى جانب محاولات العدو المتكررة فرض معادلات ردع تطلق يده في مواجهة غزة. في المقابل، تهدف المقاومة إلى إسقاط هذه المساعي، ومنع العدو من التمادي في استهداف شعبها، وإفشال سياسة الابتزاز التي ترتكز على محاولة وضع حق المقاومة وسلاحها مقابل السماح بمقومات الحياة من غذاء ودواء وغيرهما.
مع ذلك، يواجه رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، وضعاً معقداً؛ فلا هو مستعد لتقديم تنازلات بمستوى رفع الحصار أو ما يقرب من ذلك، لحسابات تتصل بمعادلات الصراع مع المقاومة وأخرى داخلية، ولا هو مستعد لاتخاذ قرارات تورّط إسرائيل في مواجهة مفتوحة مع غزة. إرباكٌ ولّده إخفاق جيش العدو في إخضاع المقاومة وردعها عن الرد، وثنيها عن خيار الدفاع عن شعبها والسعي إلى رفع الحصار. وقد حضر هذا التعقيد لدى العديد من المراقبين الإسرائيليين، فمنهم من قال إن «حماس تعرف أن نتنياهو غير معني بحرب ستكون بلا طائل، لكن رئيس الحكومة يرفض أيضاً اتخاذ قرار قيادي. خياراته واضحة أكثر من أي وقت مضى. يقول له كل قادة الأجهزة الأمنية من الممكن التوصل إلى اتفاق طويل مع غزة، ولكن يكمن في ذلك ثمن مؤلم». ويؤكد آخر أنه «ليس لدى نتنياهو أي حل لغزة، وليس لديه مفهوم حول ما يفعل مع غزة، والأمر الوحيد الذي يريده هو تخليد الوضع القائم».
وفرض تعثّر محاولات التوصل إلى تهدئة في الساعات الأولى، على الطرفين، الارتقاء في مستوى الرسائل المتضادة. بالنسبة إلى مؤسسة القرار في تل أبيب، بدا التصعيد ضرورياً من أجل رفع مستوى الضغوط، أملاً في استعادة الهدوء، وذلك استناداً إلى تقدير مفاده أن مصلحة الطرف المقابل هي عدم التدحرج نحو مواجهة مفتوحة، وأن ما يريده في هذه المرحلة رفع الحصار أو على الأقل التخفيف منه. وهو ما تجلّى في حديث نتنياهو ضمناً عن استعداده للتوصل إلى اتفاق ما يعيد الهدوء، عندما قال: «نعمل وسنواصل العمل من أجل إعادة الهدوء والأمن إلى سكان الجنوب»، الأمر الذي يعني أن تصعيده يبقى محصوراً في محاولة تعزيز أوراقه في المفاوضات التي يقودها الطرف المصري. وعلى رغم محاولته الظهور بمظهر المبادر بإعلانه أمام الحكومة توجيهاته إلى الجيش بـ«مواصلة الهجمات المكثفة» ضد القطاع وحشد قوات المدرعات والمدفعية وسلاح المشاة حوله، إلا أن نتنياهو لم يستطع أن يخفي حجم القيود التي تكبّل عملية صناعة القرار الإسرائيلي.
من جهة أخرى، ومع أن التقارير الإسرائيلية تشير إلى أن تل أبيب تتهم حركة «الجهاد الإسلامي» بالتسبب في جولة القتال الحالية، عبر قنص أحد مقاتليها ضابطاً وجندية، رداً على اعتداءات جيش العدو ضد المتظاهرين الفلسطينيين، إلا أن الكيان يركز في خطابه واعتداءاته على «حماس». وفي ترجمة لذلك، ذكرت صحيفة «هآرتس» أن «استهداف مقرّ كتائب القسام كان بقرار من الأعلى، وليس نتيجة ردّ فعل فوري من طرف القيادة في منطقة غزّة». وفي الإطار نفسه، يندرج حديث نتنياهو أمام الحكومة عن أن «حماس تتحمل المسؤولية ليس فقط عن الهجمات والنشاطات التي تقوم بها، بل أيضاً عن نشاطات الجهاد الإسلامي، وهي تدفع ثمناً مؤلماً جداً لذلك»، في محاولة لإحداث شرخ بين قوى المقاومة.
وفيما رأى المعلق العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، أن «مستوى التنسيق بين حماس والجهاد ليس واضحاً تماماً: هل قادت حركة الجهاد التصعيد الأخير منفردة أم أن حماس تستعين بالجهاد لإرسال رسائل لإسرائيل من دون تحمّل مسؤولية عن ذلك»، اعتبر المعلق العسكري في صحيفة «معاريف»، طال ليف رام، أن «الجهاد الإسلامي وحماس يعملان معاً بتنسيق غير مسبوق في جولات تصعيد سابقة»، وأن هذا الأمر يجعل ادعاءات الجيش «موضع شك». وأضاف ليف رام أن «جاهزية حماس للانتقال بسرعة إلى شن هجوم وخوضه مع قيادة الجهاد ينبغي أن تضع مرة أخرى تحدياً أمام تقدير الوضع لدينا، الذي استند بالأساس إلى أن الجهاد تسعى إلى حرب لا تريدها حماس».
الانطباع العام المتبلور في الساحة الإسرائيلية هو أن جولة التصعيد الحالية ستنتهي قريباً. ويستند هذا التقدير إلى مجموعة قيود تفرض نفسها على مؤسسة القرار السياسي والأمني، على رأسها إخفاق العدو في ردع فصائل المقاومة، وإدراكه محدودية خياراته. ويتعزز هذا التقدير مع اقتراب موعد احتفالات إسرائيل بيوم «استقلالها»، في إشارة إلى يوم إعلان «دولة» إسرائيل، وانطلاق مسابقة «اليوروفيجن» الأسبوع المقبل. في كل الأحوال، يبقى هاجس صواريخ المقاومة المنتشرة في غزة، والقادرة على استهداف وسط إسرائيل والمدن الرئيسية، الأكثر حضوراً في وعي القيادة الإسرائيلية وحساباتها.