قريباً، تنتهي جولة التصعيد الأخيرة بين إسرائيل وغزة، وتبقى دلالاتها ومسبّباتها حاضرة لا تغادر قواعد الاشتباك بين الجانبين، وتحديداً القدرة على تفعيل أوراق القوة الفلسطينية، في ظرف بات فيه الفلسطينيون مجبرين على مواجهة العدو وما يعدّه لهم، بما يتجاوز الظرف الاقتصادي والمعيشي، الذي يراد له الحلول مكان الأرض والحقوق، بوصفه المطلب النهائي للفلسطينيين. هذه هي المرة الثانية على التوالي، والثالثة في غضون وقت وجيز، التي تكسر فيها الفصائل في القطاع أهم الخطوط الحمر الإسرائيلية وأكثرها إيذاءً لأمن العدو، بقصفها تل أبيب، وأيضاً ما بعدها، من دون رد إسرائيلي موازٍ لها. والمفارقة التي تكشّفت بوضوح أن ما يمكن أن يقدم عليه الاحتلال أو يهدد به، بعد تطور بحجم قصف تل أبيب، هو نفسه الذي يمنعه من الرد: المواجهة الشاملة.وسواء جاء الظرف الانتخابي الإسرائيلي مواتياً لتفعيل خطوة قصف تل أبيب، لتحصيل مكاسب أو حقوق فلسطينية كان الاحتلال قد ظنّ أنه تجاوز تداعياتها، فإن الصاروخ يأتي في السياق الفلسطيني بعد صليتين رُدتّا إلى خطأ في الإطلاق، لتبرير ردّ فعل إسرائيلي متواضع، في ظلّ تعذر سواه من ضربات متطرفة، ما يشير إلى أن الخطأ لم يكن خطأً، الأمر الذي ينسحب كذلك على الصليتين السابقتين. في الواقع، يأتي القصف هذه المرة بلا أي «تبرير» فلسطيني لاحق أو ما يشبه الاعتذار قياساً بالصاروخين الماضيين، في ابتعاد مقصود من قِبَل الفصائل عن نظرية الخطأ، وهو ما يُعدّ تبنّياً، وإن غير مباشر، ومستوى جرأة يوازي القصف نفسه، في مرحلة حساسة جداً على خلفية التفاوض القائم على مستقبل الواقع الفلسطيني، وفي ظلّ تعالٍ ولا مبالاة إسرائيليين وصلا إلى حدّ التنكيل بالأسرى الفلسطينيين من دون توقع ردود فعل مقابلة.
بالطبع، يدفع اقتراب موعد طرح «صفقة القرن» الأميركية، الفلسطينيين، إلى تظهير جزء من أوراق القوة الموجودة بحوزتهم، مقابل الضغط المفعّل ضدهم في أكثر من اتجاه وأكثر من سياق، مع أو من دون مساعدة ومؤازرة عربية لإسرائيل، باتت أكثر إيلاماً من الضغط الإسرائيلي نفسه. وتمكن الإشارة إلى حكمة لدى متخذ قرار القصف، بداعي الخطأ أو من دونه، لموازنة ما أمكن في الميزان البيني مع العدو، ودفعه إلى الابتعاد عن الثقة الزائدة في أنه يفعل ما يشاء من دون توقع تداعيات سلبية من ناحيته. بناءً على ذلك، يشار إلى أنه في السياق الإسرائيلي جاء صاروخ تل أبيب في ظلّ توقيت انتخابي ضاغط وحرج، على مسافة أسبوعين من الموعد، وفي ذروة الاحتفاء بقرار الإدارة الأميركية «الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية» على الجولان السوري المحتل، وفي ظلّ وجود بنيامين نتنياهو في واشنطن، حيث بدا أن غزة تلاحقه وصولاً إلى البيت الأبيض، لتُذكّره والجميع بأن الرسم على الورق لا يلغي الحقوق مهما جرى من إعداد وتمهيد.
في السياق الإسرائيلي أيضاً، يأتي الصاروخ ليزيد إحراج نتنياهو الذي يتلقى الانتقاد والتنديد بموقفه من غزة، وباستراتيجية الاحتواء التي يتبعها معها، وإن كان منشأ الاحتواء هو الجيش نفسه. انتقاد يأتي من القوس السياسية كلها، من اليمين واليسار والوسط، على خلفية انتخابية انتهازية باتت ضاغطة جداً على نتنياهو وتدفعه منطقياً إلى إبداء الشدة والحزم والبطش لدفع الانتقادات عنه، لكن ما ظهر في أعقاب الردّ الإسرائيلي يؤكد من جديد أن الخيار العسكري المتطرف غير وارد في قواميس المؤسسة العسكرية.
في التفاصيل، صاروخ تل أبيب هو أكثر من كونه صاروخاً استثنائياً، إذ جاء في أعقاب صواريخ أخرى استهدفت المدينة مع أنها رُدّت إلى خطأ في إطلاقها، وهو التبرير الذي لم يعد قائماً وأُبطِل بمفعول رجعي. حيال هذا المستجد، وهذا الوضوح، انفتحت خيارات نتنياهو: إذا امتنع عن الرد أو كان رده هزيلاً، فسيؤثر ذلك سلباً عليه خلال الانتخابات، فضلاً عن تأثيره السلبي في قدرة الردع الإسرائيلية نفسها، ما يعزز موقف الفلسطينيين في المفاوضات القائمة إزاء الوضع الحالي أو المستقبلي.
في المقابل، إذا ذهب نتنياهو بعيداً، بمعنى اعتماده خيارات عسكرية متطرفة، فسيستدرج رداً فلسطينياً قاسياً بعد أن ثبت لديه ولدى المؤسسة الأمنية أن لدى فصائل غزة القدرة والإرادة على الرد بقسوة، ومن بينه استهداف تل أبيب وما بعدها، أي الدخول في مواجهة شاملة لا يريدها؛ إذ إن أقصى ما يمكن أن يصل إليه من الحرب هو إعادة إنتاج ما هو قائم حالياً، أو التمركز من جديد في مستنقع غزة. في الموازاة، وربما الأهم أيضاً في اعتبارات تل أبيب وأولوياتها، أن السياق الإقليمي وحجم تحدياته هائل، بما لا يسمح لها بالانشغال عنه في الجبهة الغزية، ما يدفعها إلى الابتعاد عنها قدر الاستطاعة. صحيح أن جبهة غزة هي الأكثر قابلية للانفجار قياساً بجبهات أخرى، لكنها ترتدّ إلى الخلف قياساً بالجبهة الشمالية ومركبات تهديدها، وهذا هو جزء، وربما الأهم، في خلفية موقف الجيش الممتنع عن الحرب مع غزة.
وفي المحصلة، يثير صاروخ تل أبيب القلق من ناحية نتنياهو، ليس لما استحصل عليه الفلسطينيون جراء جولة القتال الأخيرة، بل في إمكان أن يتكرر القصف من جديد قبل موعد الانتخابات، في مقابل ثبات الاعتبارات الإسرائيلية المانعة للمواجهة والتطرف في الردود. وهي إمكانية قائمة تضغط جداً عليه، وتستلزم منه تراجعاً في التفاوض الجاري حول جملة مسائل معيشية في مباحثات التهدئة، التي ــ للمفارقة ــ هو معنيّ بالتشدد فيها حتى موعد الانتخابات في أقلّ تقدير، فيما الفلسطيني معنيّ بدفعها مع إدراكه فرصة الانتخابات، ما يعني أن المأزق محكم من كل جوانبه على نتنياهو.
أما فلسطينياً، فيبدو أن إدراك الاعتبارات الإسرائيلية التي تمنع الحرب مفهومة جداً لدى القيادة العسكرية للفصائل، وهي التي تحرك بلورة قرار القصف، وإن بالخطأ، مع توقع تحصيل الحقوق أو ما أمكن منها. لذلك، يأتي تحذير قادة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، على اختلافها، من الإضرار بوضع الأسرى الفلسطينيين، مع التعبير عن معارضة أمنية إسرائيلية جامعة ضدّ أي إجراء عقابي تعمد إليه المؤسسة السياسية على خلفية انتخابية، ليشير إلى أن الهدف المباشر، من بين الأهداف الأولى لإطلاق الصاروخ، قد تحقق بالفعل.
التحذير، الذي كشف عنه الإعلام العبري أمس (القناة السابعة)، بعد ساعات قتالية وتبادل ضربات هي الأعنف في الشكل من جانب إسرائيل، ورد نقلاً عن مصادر في الجيش و«الشاباك»، وتحديداً ما يتعلق بضرورة الامتناع عن الإضرار بأوضاع الأسرى أو تغييرها، كي لا يؤدي ذلك إلى عنف داخل السجون وخارجها، في نتيجة جديرة بالتنويه، وإن كانت دلالات الصاروخ متشعبة ومتعددة إزاء قواعد الاشتباك وترسيخها، ومجمل الصراع القائم.