غزة | الجولة الكبرى منذ الحرب الأخيرة انتهت لمصلحة المقاومة، في مرة ثالثة هذه السنة، بعدما وجّهت الفصائل كافة ثلاث ضربات نوعية إلى العدو الإسرائيلي، مخرجة له من «أرشيف الإعلام الحربي» ما زاد من صعوبة الموقف عليه. ولكثر ما كانت الصورة جليّة، خرج مستوطنو «غلاف غزة» في مشهد لافت لاستنكار ما حلّ بهم من جهة، ورضوخ جيشهم للهدوء... خوفاً من «مجهول» غير محسوب له.مشهد فارق في المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي. فبإشعال الإطارات والتظاهرات احتجّ سكان مستوطنات «غلاف غزة» على عجز قيادتهم السياسية والعسكرية أمام المقاومة بعد جولة قتال استمرت 24 ساعة، فرضت فيها المقاومة معادلتها، ووجهت صفعات قوية إلى تل أبيب التي ظهرت عاجزة عن ردّ ناجع، وبالأحرى لا تملك خططاً عملية وفعالة، فضلاً عن عنصر المفاجأة بعد إحباط عملية أمنية «خطيرة» جنوب قطاع غزة. وفي المقابل، خرجت تظاهرات عفوية في أنحاء متفرقة من القطاع ابتهاجاً بانتصار المقاومة، وفرضها التهدئة بعد عملها بمعادلة «توسيع دائرة النار» وفق الحاجة.
فبعد أطول اجتماع عقده «مجلس الوزراء المصغر» (الكابينت)، وافق العدو على التهدئة مع فصائل المقاومة، جرّاء تدخلات عربية ودولية، لكن من دون حصوله على صورة النصر النهائية، عقب ثلاث صفعات وجهتها المقاومة إليه خلال اليومين الماضيين، بداية بكشف عملية التسلّل في خانيونس وقتل ضابط كبير، ثم استهداف حافلة للجنود بصاروخ «كورنيت»، وليس أخيراً قصف مدينة عسقلان المحتلة بصواريخ جديدة أحدثت دماراً كبيراً وأدت إلى مقتل مستوطنين وإصابة العشرات. كما استغلت «لجان المقاومة الشعبية» الفرصة وأعلنت مسؤوليتها عن كمين في شهر شباط الماضي، ناشرة تصويراً للعملية المشهورة بـ«كمين العلم».
يقول مصدر قيادي في حركة «حماس» لـ«الأخبار» إن جهوداً قادتها أربع جهات عربية ودولية، هي مصر وقطر والأمم المتحدة ودولة أوروبية (النرويج)، توصلت إلى الحصول على «موافقة إسرائيلية» على العودة إلى الهدوء وإنهاء أعنف جولة قتال منذ نهاية الحرب الأخيرة عام 2014، الأمر الذي توافق مع ما أعلنت عنه «الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة» في بيان أمس، قالت فيه إن «جهوداً مصرية مقدرة أسفرت عن تثبيت وقف إطلاق النار بين المقاومة والعدو الصهيوني»، مشترطة أنها ستلتزم ما التزم العدو. وجاء هذا الاشتراط بسبب أنه خلال ظهيرة أمس تحدّدت الثالثة والنصف عصراً كموعد لسريان الهدوء، لكن المقاومة طلبت تأجيلاً لساعتين لإجراء مزيد من التشاور في ظل مواصلة العدو القصف. فردت المقاومة باستهداف المدن المحتلة واستمرار سياسة «التنقيط الصاروخي» على مستوطنات «الغلاف»، وذلك في اختبار فعلي للموقف الإسرائيلي من التهدئة.
وجّهت الفصائل الفلسطينية ثلاث صفعات إلى الاحتلال في هذه الجولة


يضيف المصدر نفسه أن الرد الإسرائيلي جاء بعد ذلك بالموافقة على الهدوء شرط توقف الصواريخ، لكن العدو أبلغ الوسطاء أن أي خرق سيقابل بموجة قصف أشد من التي حدثت. جراء ذلك، تم التوافق الداخلي بين الفصائل على قبول التهدئة على مبدأ «الهدوء مقابل الهدوء»، مع الأخذ في الاعتبار إمكان عودة التصعيد في أي وقت، لأن الاحتلال ترك لنفسه فرصة المناورة، وهو ما أكده الناطق باسم «الجهاد الإسلامي» مصعب البريم، بالقول إن المقاومة أكدت للحظة الأخيرة أنها «لا تريد هدوءاً تقليدياً». والرسالة الأشد التي أوصلتها المقاومة للوسطاء أن عودة الاحتلال إلى «الغدر» يعني البدء بقصف تل أبيب على نحو مركّز «كرد أولي». في هذا الإطار، قال رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، إسماعيل هنية، إن «الشعب الفلسطيني دافع عن نفسه خلال العدوان وسط احتضان شعبي للمقاومة»، فيما أشادت الحركة بـ«الدور المصري الدؤوب، والجهود الأممية والدور النرويجي والقطري».
وجرّاء القصف الإسرائيلي أمس، استشهد مساء شاب وأصيب 5 مواطنين على الأقل بينهم مقاومون، جراء قصف الاحتلال موقعاً للمقاومة في منطقة المطاحن وآخر شمال القطاع وأرضاً زراعية شرق دير البلح (وسط)، ما يرفع عدد الشهداء إلى سبعة، بخلاف السبعة الذين استشهدوا خلال تصديهم لوحدة التسلل. وكان ملاحظاً أن العدو تعمّد سياسة التحذير قبل قصف البنايات السكانية تجبناً لإحداث مجزرة، وذلك عائد بدرجة أولى إلى تقديره أن المقاومة في هذا الموقف سوف تصعّد باتجاه المدى والنوعية الصاروخية وسط الاحتضان الشعبي القوي لها، خصوصاً أنها تعمدت منذ البداية استهداف الجنود بصورة مباشرة.

استراتيجية ردّ جديدة
على صعيد التجربة الأخيرة، يقول مصدر في غرفة «العمليات المشتركة» لـ«الأخبار»، إن المقاومة اعتمدت استراتيجية جديدة للمرة الأولى في تاريخ المواجهة مع العدو، وذلك لتجاوز الضغط الكبير الذي يمارسه الاحتلال بتكثيف القصف على الأماكن المدنية. هذه الاستراتيجية تجلّت في تركيز القصف على مدينة محددة باستخدام صواريخ جديدة ذات قوة تفجيرية ودقة في إصابة الهدف. يشرح المصدر أن العدو فهم أن توسيع المقاومة مدى الصواريخ لا يعني عشوائية إطلاقها بل تركيزاً على المدن التي تقع في هذا المدى. فبينما أدخلت المقاومة عسقلان في دائرة القصف المركز، تلقى المستوطنون فيها أكثر من 100 صاروخ، ما أدى إلى مقتل واحد منهم على الأقل وإصابة أكثر من 70 بينها إصابات خطيرة انتشلت من تحت أنقاض منازل مدمرة وفق وسائل إعلام عبرية، الأمر الذي دفع قيادة «الجبهة الداخلية» إلى الطلب من السكان الذين ليس لهم مكان في الغرف المحصنة بعد امتلائها، الجلوسَ في أماكن آمنة داخل منازلهم. لكن ذلك لم يلهِ المقاومة عن ضرورة استهداف «غلاف غزة» بالصواريخ الصغيرة وقذائف الهاون.
ولعدة ساعات من المواجهة، حافظت المقاومة على منسوب ردها العالي أمام القصف الإسرائيلي الذي بات مركزاً ضد أهداف مدنية لجعل الثمن كبيراً عليها، كما زادت درجة احتياطاتها والحماية الشخصية لقيادة المقاومة من أجل تجنيب الاحتلال مكسباً يتمثل في اغتيال يحصل به على صورة النصر. ويؤكد المصدر نفسه أن أبرز رسالة كانت المقاومة تريد قولها للاحتلال إن ما حدث يمثل شكلاً مصغراً لأي حرب مقبلة، وإن القدرة العسكرية في القطاع ليست كما قبل، وإننا يمكن أن نفرض المعادلات.

صعوبة قرار الحرب
على الجانب الآخر، أفضى اجتماع «الكابينت» في مرحلة ما عن ترك التقدير للجيش ليقرر مواصلة العملية «كما تقتضي الحاجة»، ثم انتهى إلى القبول بالعودة إلى الهدوء، في اجتماع هو الأطول في تاريخ الحكومة الحالية، فقد استمر ست ساعات متواصلة، وحضره للمرة الأولى رئيس «الموساد»، يوسي كوهين، والمستشار القانوني للحكومة، أفيخاي ماندلبليت، الذي صرح عقب الاجتماع بأنه يعمل على «مساعدة القيادة السياسة والعسكرية في هزيمة العدو في إطار القانون»، الأمر الذي أوضحته صحيفة «إسرائيل اليوم»، بالقول إن المجلس المصغر «درس طرقاً لمعاقبة حماس من دون مواجهة شاملة».
ولم يمضِ على ذلك وقت قصير حتى بدأت المزاودات الداخلية، والاعتراف بأن المقاومة الفلسطينية هي صاحبة اليد العليا وحققت أهدافها خلال هذه الجولة، كما تظاهر العشرات من مستوطني «غلاف غزة» وأغلقوا الطرق وهتفوا ضد الحكومة واتهموها بأنها «جبانة» احتجاجاً على صورة الهزيمة التي مني بها الجيش، ما أدى إلى مصادمات بينهم وبين شرطة الاحتلال وفق إذاعة «ريشت كان» العبرية. في المقابل، حاول وزيرا الأمن أفيغدور ليبرمان والتعليم نفتالي بينت التنصل من الموافقة على التهدئة، إذ لمّح ليبرمان، وفق القناة «العاشرة»، إلى أنه الوحيد الذي عارض الاتفاق، وكذلك بيّنت كذب كل التقارير التي تقول إنه وافق. وبينما نقلت المراسلة السياسية لقناة «ريشت كان» أنه خلال الساعات الست انتقد الوزراء الجيش لأنه لا يوجد لديه «بدائل كافية»، في حين أن القيادات العسكرية ردت بأنها «حائرة بسبب الآراء المختلفة للكابينت».



تواضع أداء «القبّة الحديدية»
أظهرت جولة التصعيد الأخيرة تواضع أداء منظومة القبة الحديدية لاعتراض الصواريخ، التي أطلق منها المئات من القطاع باتجاه الأهداف الإسرائيلية، مع نجاح اعتراض محدود، قياساً بما سبق من جولات تصعيد سابقة بين الجانبين. تواضع أداء المنظومة كان واضحاً، وعدد الصواريخ التي فشلت في اعتراضها كان كبيراً جداً، إذ اعترضت أقل من 100 صاروخ من أصل 460، أُطلقت في اليومين الماضيين من القطاع.
فشل المنظومة وتقلص كفاءتها عما كان يتوقع منها المستوطنون، دفع المحللين والمعلقين في إسرائيل إلى البحث عن الأسباب مقابل دفاع المؤسسة الأمنية عنها. الناطق باسم جيش العدو، العميد رونن منليس، أشار في دفاعه إلى أن «أداء القبة الحديدية وصل إلى حده الأقصى، وهذا ما يمكن أن تقوم به، إذ لا أداء محكماً لدى المنظومة». كذلك كشفت تقارير عبرية، أن الفصائل في غزة استطاعت العمل هذه المرة على تجاوز المنظومة، عبر تكثيف الهجمات وتعدد الصليات، وكذلك العمل على إطلاق الصواريخ من زوايا وأماكن يصعب على القبة تتبعها.
(الأخبار)