تصطدم استراتيجيات إسرائيل في ترسيخ نفسها وأمنها وحضورها وتقبّل محيطها لها بجملة عوائق خارج التهديدات الأمنية، من بينها قضية اللاجئين الفلسطينيين. لذلك، كانت إسرائيل وما زالت معنية بإنهاء ملف فلسطينيي الشتات بوصفهم لاجئين، الصفة التي تعني في مقصدها وجوداً مؤقتاً قسرياً مع ما يلتصق به وبنتيجته من حق العودة. وأيضاً الصفة تورث الهوية والأمل، وتخلد الحق وتنمّي بقاءه مهما طال نجاح إسرائيل في فرض نفسها بالقوة على محيطها.ولا مبالغة في القول إنه ضمن مروحة العوائق التي تمنع إسرائيل من القضاء على القضية الفلسطينية، سواء بالحروب أم الخيارات المبنية على التسويات والتنازل، تعد صفة اللاجئ في مقدمة الاهتمام الإسرائيلي واستراتيجياته. وفي المعادلة، صفة اللاجئ تعني حق العودة، وبدورها تعني القضاء على إسرائيل من الداخل. على هذا الأساس، شكلت هذه الصفة تهديداً وجودياً لإسرائيل. على مر السنوات، اختلفت طرق مواجهة صفة اللجوء وفقاً للإمكانات الفعلية والظروف. في البدء، عمدت إسرائيل إلى تجاهل هذا الحق وكل القرارات الدولية المتصلة به، تجاهل جاء بمعية مساعدة وتآزر الغرب على رغم المشاركة حينذاك في بلورة وإصدار القرارات المتعلقة باللاجئين، والمطالبة بعودتهم. أيضاً، كانت الأمم المتحدة مخرجاً للاحتلال وداعميه عبر محاولة تلطيف جريمة إسرائيل بطرد أو التسبب في لجوء الفلسطينيين. تلطيف هذه الجريمة جاء عبر تأسيس وكالة دولية ترعى اللاجئ وتؤمن جزءاً من حقوقه الإنسانية، إلى حين تنفيذ القرارات الدولية والعودة إلى فلسطين.
في ذلك الوقت، كانت «الأونروا» ضرورة إسرائيلية تمكن المشروع الصهيوني من تجاهل حق العودة والامتناع عن تنفيذ القرارات في شأنه، وهي كذلك ساتر يخفي التخاذل العربي، في موازاة توجه إلى ربط اللاجئين بالحل النهائي والتسوية، بوصفها جزءاً من نزاع ونتيجة له. رعونة عربية أو تقصير أو خيانة أو حتى قصور، لكن وجود إسرائيل طال سنوات، وطال معه الوجود الفلسطيني في الشتات، إلى أن بلغ الملايين. مع ذلك، نجحت إسرائيل والولايات المتحدة، عبر المساعدات و«الأونروا» والرفع الجزئي عن تحمل الأعباء لدى دول اللجوء، أن تحول اللاجئين إلى جزء طبيعي من مركبات المنطقة والمكونات الديموغرافية حيث هم، مع التسليم بتأجيل المعالجة حتى البدء بالحل السياسي للصراع الذي تحول بدوره مع السنوات إلى مجرد نزاع مع سكان عرب يعيشون في أرض متنازع عليها! ربطاً بذلك، تعددت المشاريع والصيغ والحلول الغربية على مر السنوات، وركزت على تعويض اللاجئ الفلسطيني لقاء التنازل عن حق العودة، ثم توطينه حيث هو. وإن لم تستطع هذه الصيغ و«الحلول» الوصول إلى مقاصدها، فإنها في الوعي الجمعي لدى معظم الأطراف أدخلت معطى جديداً، سواء رفضت أم قبلت، هو أن حق اللجوء يمكن التنازل عنه لقاء تعويضات. وفي مسار التسوية اللاحق، كان حق العودة في مقدمة القضايا الخلافية بين المفاوضين، لكن تأجل البت فيه تسويفاً خلال بلورة اتفاق أوسلو، والحال كذلك في ما بعده من اتفاقات، نُفذت أو لم تنفذ.
تشدد وثيقة الخارجية على توطين المقيمين في الأردن


شهية إسرائيل في السنوات الأخيرة باتت لا متناهية. لم تعد تطلب التنازل الفلسطيني لقاء فتات حقوق، بل باتت تسعى إلى إنهاء القضية الفلسطينية بلا أثمان، حتى الأثمان الشكلية.
على ذلك، صوبت إسرائيل وإن عبر المبادرة الأميركية على الأسس التي تنزع صفة اللاجئ عن الفلسطينيين، وذلك في اتجاهين: نزع الصفة وحصرها في عدد محدود جداً، عبر تضييق معاييرها بشخص الذين طردوا من فلسطين من دون ربط الصفة بفروعهم. ومع الفاصل الزمني منذ ١٩٤٨، سيكون عدد اللاجئين محصوراً في عدة آلاف، أي نزع الصفة عملياً عن ملايين اللاجئين الذين يصار بطبيعة الحال إلى توطينهم وإعطائهم جنسيات من مكان لجوئهم. الاتجاه الثاني هو إنهاء خدمات وكالة «الأونروا» بعد انتهاء وظيفتها الابتدائية. جاء ذلك عبر القرارات الأميركية بقطع التمويل المالي عنها، بعد أن بات وجودها يتعارض مع المسعى الإسرائيلي الحالي، الذي يجد أن الفرصة باتت متاحة لإنهاء صفة اللاجئ في الواقع والقانون، وعليه نفي حق العودة، وبطبيعة الحال انتفاء القدرة عن التنازل عن حق غير موجود ومنع طلب التعويض عنه سواء في المفاوضات أو غيرها. وفي الأساس أيضاً الدفع أكثر نحو فرملة تخليد الهوية الفلسطينية التي يجب طمسها وإنهاؤها.
قبل أيام، بدأت إسرائيل استكمال خطط مواكبة نتائج الإجراءات الأميركية ضد قضية اللاجئين. ففي وثيقة نشرت مضمونها صحيفة «يسرائيل هيوم»، صادرة عن الخارجية الإسرائيلية، تضبط تل أبيب نهجها مع الموقف الأميركي الأخير ضد اللاجئين و«الأونروا». يرد في الوثيقة سلسلة ادعاءات غير مسبوقة تنفي وجود 5 ملايين لاجئ، مع التأكيد أن ما تسميه «التعريف الموسع» للاجئين الفلسطينيين هو تعريف مخادع وفيه كثير من الظلم. وتلمح إلى وجوب توطين الفلسطينيين المقيمين في الأردن.
يرد في الوثيقة أن قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بوقف تمويل «الأونروا» يوضح أن الوكالة ليست جزءاً من الحل إنما جزء من المشكلة، وتضيف أنه بدلاً من تقديم المساعدات الاجتماعية، تصعد «الأونروا» النزاع بتضخيم «الأعداد المزورة للاجئين»، فضلاً على تواصلها مع حركة «حماس». وتتابع الوثيقة: «يوجد عدد قليل جداً من الفلسطينيين الذين يستوفون المواصفات الشرعية للاجئ وهم بضع عشرات الآلاف من أصل 5.3 مليون مسجلين اليوم في سجلات الأونروا على أنهم لاجئون». وفي ما يتعلق بالقرارات الدولية حول حق العودة للفلسطينيين، تؤكد الوثيقة أن القرار 194 صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، علماً أن قراراتها لا تتمتع بصفة قانونية ملزمة.