رام الله | يحسم مرور 70 سنة على النكبة الفلسطينية أن العلاقة بين الزمن وملف النكبة واللاجئين علاقة عكسية؛ فكلما تقدمت السنوات، خسر الفلسطينيون أجيالاً ممن عايشت النكبة عن قرب، ومن جهة أخرى، تمرّ الأعوام ويتراجع الاهتمام بملف اللاجئين في الساحات الفلسطينية والإقليمية والدولية، رغم أن كثيرين ينظرون إليه على أنه أساس القضية الفلسطينية، وذلك مع ما لملف القدس من رمزية، وملف الأسرى من حساسية إنسانية. ورغم أن السلطة ــ ومن ورائها «منظمة التحرير» ــ تقدم قضايا مثل الاستيطان والقدس على قضية اللاجئين، وتطمح إلى أن تحصل فيها على شيء، فإن عودة اللاجئين كانت الخط الأحمر الأكثر صعوبة في أي مفاوضات تسوية مع العدو الإسرائيلي.وأكثر ما يبين أن الأميركيين والإسرائيليين يدركون هذه المعادلة جيداً هو أن قرار الرئيس دونالد ترامب، الخاص بالاعتراف بمدينة القدس المحتلة «عاصمة لإسرائيل» ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إليها، لم يأتِ بلا «رصاصة رحمة» على قضية اللاجئين، بل دمج ترامب بين القرارين عندما حدّد أن يكون تاريخ نقل السفارة إلى المدينة التي يرى فيها الفلسطينيون عاصمتهم «الأبدية» هو يوم النكبة نفسه، أي 15 أيار، وأتبع ذلك بقرار تقليص الأموال التي تدفع إلى «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا).

أين بدأنا ننسى العودة؟
بدأت أولى التنازلات في مسار التسوية عبر «برنامج النقاط العشر» أو ما يسمى «البرنامج المرحلي» منذ عام 1974 وصولاً إلى «مبادرة السلام» الفلسطينية عام 1988، وأبرز بنود هذا البرنامج هي «إنهاء الاحتلال عبر إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، ومعالجة مشكلة اللاجئين بحلٍّ عادل». بعد ذلك، تدرجت حكاية الانكفاء عن الاهتمام بملف اللاجئين فلسطينياً منذ التحول الجذري في «منظمة التحرير» خلال جلسة «المجلس الوطني» للمنظمة عام 1996، التي عُقِدت داخل غزّة بحضور الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، وخلالها تم التصويت على تعديل الميثاق الوطني للمنظمة، وكان من أبرز نتائجه تعديل مفهوم فلسطين، والتنازل رسمياً عن تسميتها «من البحر إلى النهر»، علماً أن تجهيزات عقد هذه الجلسة جرت بحذرٍ عبر إضافة أعضاء جدد إلى المجلس، فصوّت نحو 700 شخص ــ أضيفوا بطريقة غير تقليدية ــ لمصلحة تعديل الميثاق.
بدءاً من تلك اللحظة تضرر مفهوم حق العودة، إذ كيف سيعود اللاجئون إلى إسرائيل وفقاً للميثاق المُعدّل الذي مست «التعديلات» بنوداً أخرى منه مثل المادة 9 التي أتاحت إنهاء خيار الكفاح المسلح، والمادة 2 التي كانت تنص قديماً على أن حدود فلسطين هي نفسها وقت الانتداب البريطاني وغير قابلة للتجزئة، بل نصّ الميثاق المعدّل على التعايش والاستمرار في مسيرة التسوية وصولاً إلى ما يسمى «حل الدولتين»، وذلك بعد أن كانت الصهيونية «حركة سياسية عنصرية وفاشية، وعصابات لممٍ من شِتات المعمورة، متعصبة بطبيعتها ومرتبطة بالإمبرالية العالمية»، وفق المادة 22 من الميثاق القديم! ولعل أكثر ما ساهم في إغفال، أو بالأحرى إهمال، اللاجئين وتهميش دورهم في مراكز صناعة القرار الفلسطيني، هو تحوّل مركز ثقل فصائل «منظمة التحرير» والسلطة من الخارج إلى الداخل بعد «أوسلو»، ومن ثم ابتلعت السلطة المنظمة ومؤسساتها، فتراجع دور الأخيرة وأصبحت تتلقى تمويلها الكامل من الأولى.
جاء الإخفاق الأكبر من «منظمة التحرير» التي أساءت إدارة ملف اللاجئين منذ البداية


وإذا كانت المنظمة ــ و«المجلس الوطني» ــ قد فعلت ما فعلته، فلا عتب على السلطة التي اكتفت بدورها بالتلويح بورقة القرار 194 الذي ينّص على حق العودة مع التعويض، لكن واقع مسيرة التسوية يثبت وجود تجاهلٍ واضح لملف اللاجئين، لأن جميع المبادرات والمشاريع الإقليمية والدولية تجاهلت الملف أو لم تضعه في سلم الأولويات، بدءاً باتفاق أوسلو، وصولاً إلى مشروع القرار الفلسطيني ــ العربي المطروح على مجلس الأمن في كانون الأول 2014، وليس أخيراً المبادرة الفرنسية بين عاميْ 2015 ــ 2016. أما العدو، فساهم في تبريد ملف اللاجئين وإزاحته عن الطاولة في كل مباحثات التسوية عبر ما يسمى «تأجيل قضايا الوضع النهائي»، وهو لم يكتفِ بتقسيم القضية إلى ملفاتٍ وأجزاء (حدود، مناطق سيطرة، بروتوكول اقتصادي، مياه، القدس... إلخ)، بل جزّء المُجزّأ، وأشغل الفلسطينيين سلطةً وشعباً وفصائل بمسائل طارئة، وهكذا نجح في المماطلة وكسب الوقت لتنفيذ مخططاته والاستمرار في فرض إجراءاته وواقعه من طرفٍ واحد. فمثلاً تبدّلت الاهتمامات من «مناطق أ وب وج» إلى مسائل شبه يومية طارئة (اعتداءات، مصادرة أراضٍ، استيطان)، وبذلك خرجت قضية اللاجئين تلقائياً.

تشويه مفهومي اللاجئ والمخيم
ما مسّ ملف العودة من تراجع لا يقتصر الأمر على اللاجئين خارج فلسطين، بل يمس حتى من يسمون النازحين (اللاجئين الذين خرجوا من الـ48 إلى الضفة وغزة أو ضواحي القدس)، ويرى هؤلاء الذين لا يزالون يعيشون داخل مخيمات وسط المدن الأساسية أن قضية عودتهم شهدت تراجعاً كبيراً، وأن هناك صورة نمطية يحرص البعض على إلصاقها بهم، مثل أنهم يحظون بـ«ميّزاتٍ» دون الآخرين من الشعب، فضلاً عن حملات التشويه التي تطاول المخيمات وسكانها، ووصفهم عادة بالخارجين على القانون. فعلى الصعيد الخدمي مثلاً، يروج دوماً أن «اللاجئ لا يدفع فاتورتيْ التيار الكهربائي والمياه رغم أنه يستهلكها أكثر من جاره في القرية والمدينة بأضعاف».
من جهة أخرى، يشكل حصر ملف اللاجئين والنكبة في المخيم أبعاداً خطيرة، كما يرى مختصون، إذ إن هناك آلاف الفلسطينيين الذي يقطنون خارج المخيمات شطبتهم «الأونروا» من سجلاتهم، وكذلك فعلت «دائرة شؤون اللاجئين» في «منظمة التحرير». ثمة عامل لا يقل خطورةً هو تراكم السنين على أجيال المستوطنين في فلسطين التاريخية، إذ إن مرور 70 عاماً على النكبة أفرز أجيالاً جديدة من المستوطنين وُلدَت في فلسطين، وليس لديهم أي موطنٍ سابق قد يذكرونه، علماً أن تقارير إعلامية تذكر أن أكثر من نصف المستوطنين داخل المدن المحتلة عام 1948 هم من مواليدها، وهذا الأمر يُصعّب أي حلٍ لقضية اللاجئين دون تحرير كامل للتراب الفلسطيني.

«الأونروا» شاهد الزور
رغم أن «الأونروا» لم تكن سوى شاهد زور، كما يرى كثيرون من اللاجئين، كونها لم تكن تقدم خدماتها الإغاثية والتشغيلية سوى كمسكنات وتأجيل لمشكلتهم، فإنها بما هي عليها تواجه خطر انتهاء خدماتها. وحتى ما قبل قرارات ترامب، كانت حكومة العدو قد تبنت في جلستها المنعقدة في العاشر من حزيران الماضي مشروعاً للبدء على العمل على تفكيك الوكالة، وهو ما أكده رئيسها بنيامين نتنياهو في أكثر من محضر. وفعلياً شلّ وقف المساعدات الأميركية جزءاً كبيراً من عمل الوكالة، وذلك تحت عنوان أن استمرار عملها يعبّر بصورة أو بأخرى عن التزام المجتمع الدولي قضية اللاجئين وعودتهم، أو أنهم من إفرازات النكبة.
مع ذلك، يبقى الإخفاق الأكبر هو ما وقعت فيه «منظمة التحرير» التي أساءت إدارة ملف اللاجئين منذ البداية، إذ دمجته مع سائر الملفات تحت مظلة الهدف العام وهو التحرير، كما أن غالبية السياسيين الفلسطينيين حتى الآن لا يميزون بين الحق الفردي للفلسطيني مدنياً وقانونياً وشخصياً، وبين هذا الحق كأمرٍ جماعيٍّ وملفٍ سياسي، وهو ما أدى وفق حقوقيين إلى استثناء اللاجئين منذ البداية من حماية الأمم المتحدة عبر المفوضية العليا للاجئين التي تتبع الأمم المتحدة، إذ اكتفت الأمم برعايتهم عبر «الأونروا»، ليبدو ملف النكبة والمتضررون منه كأنهم أسماء وأرقام على كروت التموين ينتظرون ما يعيشون عليه بين نهاية شهر وبداية آخر.