رام الله | يحيي الفلسطينيون اليوم ذكرى يوم الأسير، تزامناً مع استمرار ملف سجون العدو مفتوحاً، عدداً ووجعاً وإهمالاً وركوداً، إذ يبلغ عدد الأسرى 6500، قابلاً للزيادة كل ليلةٍ بفعل استباحة جيش الاحتلال المستمرة للمدن والقرى. ومن المفارقات أن يوم الأسير (17 نيسان من كل عام) كان قد أقره «المجلس الوطني» الفلسطيني منذ عام 1974، بعد مرور ثلاث سنوات على الإفراج عن محمود بكر حجازي (1971)، وذلك في الوقت الذي يعيش فيه المجلس حالة شلل كبيرة بسبب الانقسام الداخلي والخلافات بين مكوناته، فيما تقف السلطة ومن ورائها «منظمة التحرير» عاجزتين حتى عن دفع العدو إلى الإفراج عن الدفعة الرابعة من «أسرى ما قبل أوسلو» قبل تعرقل المفاوضات. هذا اليوم يمرّ ثقيلاً على الأسرى، وكذلك على ذويهم، في ظل الانقسام الذي يعصف بالساحة الفلسطينية، وتراجع ملفهم أمام ملفات أخرى كبيرة، كالقدس وحصار غزة والاستيطان، لكن كالعادة ستتخلله فعاليات موسمية. تقول والدة أحد الأسرى: «يوم الأسير أصبح مثل يوم الأم، مجرد ذكرى للخطابات، وكل فصيل بيقول الجملة المشهورة بأن الأسرى على رأس سلّم الأولويات... ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل 17 نيسان».
أرقام مخيفة
يقول رئيس «وحدة التوثيق والدراسات» في «هيئة شؤون الأسرى»، عبد الناصر فراونة، إن «تقرير الهيئة السنوي يكشف أن قرابة مليون فلسطيني مرّوا بتجربة الاعتقال لدى العدو منذ بداية الاحتلال، فيما يبلغ عدد شهداء الحركة الأسيرة الذين ارتقوا داخل السجون 215»، علماً بأن «مئات الشهداء من الأسرى المحررين ارتقوا بعد خروجهم بفعل ما ورثوه عن السجون من أمراضٍ وإهمال طبي ومعاناة». وحتى أواخر الشهر الماضي، بلغ عدد الأسرى 6500، من بينهم 350 طفلاً، و62 أسيرة، ومن هؤلاء 1800مريضٍ من بينهم 700 بحاجة إلى «تدخل طبيّ عاجل».
رغم هذه الإحصائية، يرى مسؤولون في الفصائل والهيئات المنبثقة منها (لكل حركة مؤسسة خاصة بالأسرى) أن ملف الأسرى الفلسطينيين هُمّش خلال السنوات الإحدى عشرة الماضية بفعل عوامل كثيرة كانت تتقدم في أحيان كثيرة عليه، كالانقسام بين حركتي «فتح» و«حماس» وما تبعه. بجانب ذلك، كان العدو يتقن سياسة إشغال السلطة والتنظيمات بمسائل طارئة، مثل: قرارات احتجاز أموال الضرائب الفلسطينية «المقاصّة»، وتوسيع المستوطنات، والحروب والاشتباكات.
ومنذ مجيء إدارة البيت الأبيض الجديدة برئاسة دونالد ترامب، ساهم الأميركيون في ضرب ملف الأسرى بقوة، بالتوازي مع خطواتهم الأخرى المتعلقة بالقدس أو «صفقة القرن» وتقليص دعم «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، إذ عمدوا بالتنسيق مع الإسرائيليين إلى الضغط على السلطة لاستهداف رواتب الأسرى، وهو أمر بدلاً من أن يطرح قضيتهم على سلم الأولويات، صار باباً للالتفاف والتنازل.
كل ما سبق دفع الأسرى داخل السجون إلى محاولة فرض أولوية قضيتهم على الشارع الفلسطيني أكثر من مرة، عبر إضرابات جماعية أو فردية أثرت في التفاعل الشعبي جزراً ومداً، لكن قضية الاعتراف الأميركي بالقدس «عاصمة لإسرائيل» ونقل السفارة إليها غطّى على كل شيء.

الصفقة: الحل الصعب
رغم ما تسمى «مبادرات حسن النوايا» التي قدمتها إسرائيل في خضمّ بعض المفاوضات خلال عملية التسوية، فإنها لم تطلق أعداداً كبيرة من الأسرى، فضلاً عن أنها كانت بوابة للابتزاز، ولا ضامن من إعادة اعتقال من أفرج عنه لاحقاً. ولذلك، أثبتت التجربة الفلسطينية أن صفقات التبادل بالقوة هي التي ساهمت في إطلاق الأعداد الكبرى من الأسرى. وكانت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» قد دشنت هذا المسار عام 1968 بصفقة نال بموجبها 37 أسيراً حريتهم بعد اختطافها طائرة لشركة «العال» على متنها ما يزيد على مئة راكب، تلتها صفقات أخرى من بينها الإفراج عن 4700 أسير عام 1983 مقابل ستة جنود كانت تأسرهم «فتح» في جنوب لبنان.
أثبتت التجربة أن الصفقات هي السلاح الأنجع، لكن مشكلتها طول الوقت


وعام 1985 أُفرج عن 1150 أسيراً فلسطينياً وعدد من الأسرى العرب (منهم 153 لبنانياً) مقابل إطلاق ثلاثة جنود إسرائيليين أسرتهم «الشعبية ــ القيادة العامة» في لبنان، وقد أصّرت المقاومة الإسلامية في لبنان على وضع بصمتها في صفحات صفقات التبادل، فأدرج حزب الله على قائمته مئات الأسرى الفلسطينيين في صفقاته كافة. وفي 2011، شهدت الأراضي الفلسطينية أول عملية تبادلٍ كبيرة ناجحة، المعروفة بـ«صفقة شاليط» أو «وفاء الأحرار»، وأُفرج فيها عن 1027 أسيراً مقابل إطلاق «حماس» سراح الجندي جلعاد شاليط، والآن لقي أربعة إسرائيليين مصير شاليط في غزّة، وصُنّفوا في عداد المفقودين تارةً والقتلى تارةً أخرى.
جراء ذلك، يبقى رهان جُلّ الفلسطينيين على عمليات التبادل التي تنفذها المقاومة، والمشكلة في ذلك أنه رغم وجود عدد من عمليات الاختطاف الناجحة وصفقات التبادل، فإن التجربة أثبتت الحاجة إلى امتلاك «النفس الطويل» والحذر في مناورات العدو وكذلك الوسطاء، فـ«صفقة شاليط» مكثت خمس سنوات حتى بدأت بالخروج إلى النور، فيما لا يزال ملف الجنود في غزة معلّقاً والمباحثات حوله لم تصل إلى نتيجة منذ عام 2014، وذلك فضلاً عن مرور محاولات أسر كثيرة كانت قد أخفقت، بجانب أن أي صفقة لم تستطع تنظيف السجون كلياً.

محنة «الإداري» المتواصلة
لا يزال الاعتقال الإداري من أبشع الأساليب التي ينتهجها العدو بحق الأسرى الفلسطينيين، وذلك لأن الاحتجاز والاعتقال يسريان دون تهمةٍ وبذريعة الملف السرّي، ودون مدة محددة للبقاء في السجن. ويبلغ عدد الأسرى الإداريين 500، وقد أعلنوا مقاطعتهم محاكم العدو منذ شهرين بجانب إجراءات احتجاجية أخرى علقوا بعضها قبل أيام. فمثلاً، إذا حُكِم أسيرٌ بالسجن 20 عاماً، فهو يُدرك أن خروجه بعد انتهاء محكوميته أو قبلها في حال حصول صفقة، لكن «الإداري» لا يعرف حقاً متى يخرج وعادة لا تتضمنه الصفقات، بل قد يُعاد تمديد الأشهر له عند تجهيزه ثيابه وبعد إعلامه بقرار الإفراج عنه.
يشرح أسرى محررون أن العدو يستعمل هذا الأسلوب لأهداف منها: إبعاد الشخصيات المؤثّرة والقيادات الميدانية المناطقية، ويلجأ ضباط «الشاباك» إلى هذا الأمر إذا لم يُثبتوا تهمة معينة على الشخص، أو بسبب صمود الأسير في التحقيق رغم وجود شكوك معينة أو معلوماتٍ استخبارية بضلوعه في أمر ما. وهكذا، يكون الإفراج عن المعتقل الإداري وفق مزاج الضابط الإسرائيلي وتقديره.
بجانب ذلك، تواصل حكومة العدو التصديق أو دراسة عددٍ من القوانين المتعلقة بالأسرى، كما قدّم برلمانيون إلى «الكنيست» مشاريع قرارات، مثل: قانون التغذية القسرية للأسرى المضربين عن الطعام عام 2015، وقانون تشديد العقوبة على راشقي الحجارة لتصل إلى عاميْن كحدٍّ أدنى وأربعة أعوامٍ كحدٍّ أقصى، فيما صدّق «الكنيست» بالقراءة الأولى على مشروع قانون يسمح بسجن الأطفال الفلسطينيين دون الرابعة عشرة. أيضاً قُدّمت مشاريع لقوانين منافية لحقوق الإنسان، مثل: قانون إعدام الأسرى، وحرمانهم التعليم والاتصال، ومشروع قانون «الإرهاب»، وتشديد العقوبة على محرري «صفقة شاليط» المعتقلين، إضافة إلى قانون يقضي بتطبيق القانون الجنائي على الأسرى الأمنيين (الأسرى الفلسطينيين المقاومين).



إسراء جعابيص

حكايات السجون كثيرةٌ، وأيقونات الأسر لا تُحصى، لكن إسراء جعابيص (أم معتصم)، تمثل شاهداً على الإهمال الطبي، واعتقال الأمهات وحرمانهم أطفالهن. فبينما كانت (33 عاماً) تسير بمركبتها قبل الوصول إلى حاجز «الزعيم»، في 11 تشرين الأول 2015، احترقت سيارتها بفعل تماسٍ كهربائي. توضح العائلة أن النيران أصابت جعابيص بحروقٍ في أكثر من ثلثي جسدها، فتضرر الوجه واليدان، وبُترت 8 أصابع، وسبّبت الحروق التصاقاتٍ في الكتف الأيمن والرقبة، ومناطق أخرى. محكمة العدو أسندت إلى الأسيرة تهمة «الشروع بالقتل والتحريض»، وحكمت عليها بالسجن 11 عاماً، فيما تنفي الأسيرة وقوع أي انفجار. وتوفّر إدارة السجن مرهماً صغيراً لتبريد الحروق لا تزيد سعته على 20 ملم يُصرف لإسراء كل ثلاثة أيام، ولا يكفي لتغطية حروقها، فتلجأ إلى «دواء كل الأمراض في السجون»، أي المسكّنات.

عهد التميمي

لم يحوّل مقطع الفيديو القصير عهد التميمي إلى أيقونةٍ، بل هي كانت كذلك منذ سنواتٍ طويلة، لكن هذا المقطع، الذي تظهر فيه وهي تطرد جنديين إسرائيليين عن باب بيتها، أبرز شجاعة ابنة السابعة عشرة.
وخلال جلسات ومداولات، وجهت النيابة العسكرية للعدو 12 تهمة إلى التميمي، أبرزها: صفع جنديين، إضافة إلى «التحريض ورشق الحجارة والتهديد»، فيما يواصل العدو محاكمة والدتها ناريمان. وفي 12 آذار الماضي، أصدرت محكمة العدو قرارها بسجن التميمي ثمانية أشهر، وبالسجن لمدة ثمانيةٍ أخرى مع وقف التنفيذ لخمس سنوات، إضافة إلى غرامةٍ مالية بنحو ألف و500 دولار. أثناء محاكمتها وقفت التميمي وتحدثت باختصار: «لا عدالة تحت الاحتلال، وهذه المحكمة غير شرعية»، فيما أظهرت مقاطع مصورة عن التحقيق معها صمودها وصمتها
الذي استفز المحققين.