مرة أخرى، يفاجئ الشعب الفلسطيني العدوّ الإسرائيلي، ويؤكد إخفاق أجهزته الاستخبارية والعسكرية في إثبات فعالية الإجراءات الأمنية لحماية العمق الإسرائيلي، بما فيها تلك التي تنطوي على خصوصية ورمزية في الوعي والوجدان الصهيوني.
مرة أخرى أيضاً، يسقط هذا الشعب مزاعم الاحتلال في نجاحه في قمع الانتفاضة وإخمادها. نتيجة ذلك، لم تدم فرحة المتربصين بالانتفاضة طويلاً على اختلاف مواقعهم وخلفياتهم التي يجمعها شعار أن لا صوت لفلسطين فوق صوت الخيارات التطبيعية والتسووية، وأن لا موقع لفلسطين في خيارات الإرهاب التكفيري، وخاصة أن الصفعة التي أحبطت رهانات كل هؤلاء جاءت على يد الأسير المحرر فادي القنبر، وكانت مؤلمة جداً للعدو، بعد مقتل وجرح نحو عشرين جندياً إسرائيلياً في وضح النهار داخل مدينة القدس المحتلة.
لا تقتصر الصدمة التي تلقاها الكيان الإسرائيلي على الخسائر البشرية المؤلمة، ولا لكون المستهدفين من الجنود، وبعضهم ضباط، بل لكونها تساهم في زعزعة ثقة الجمهور بقادته وبخياراتهم. وأسقطت أيضاً، مع ما سبقها وسيعقبها، مفاهيم عدة في آن معاً، منها إمكان الجمع بين الأمن والاحتلال، وإخفاق الترويج لغياب جدوى المقاومة.
ومع أن العملية توجب من قادة الاحتلال خطاباً يحاكي تطلعات الجمهور الإسرائيلي، ونتائج العملية نفسها وسياقاتها وخيارات الرد، بدا رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، أكثر اهتماماً بالترويج لخطابه السياسي الذي يحاول فيه تشويه مقاومة الشعب الفلسطيني عبر وسمها بالإرهاب وربطها بالجماعات التكفيرية.

أدان نائب رئيس
الوزراء التركي العملية ووصفها بـ«إرهابية حقيرة»

ظهر نتنياهو، صراحة، كأنه يتمنى أن يكون المنفذ محسوباً على تنظيم «داعش»، وذلك بالادعاء أن منفذ العملية «من أنصار هذه الجماعة التكفيرية والإرهابية»، وهو يهدف من وراء ذلك إلى تعزيز مقولته التي أكد فيها أمس أن عملية القدس تأتي امتداداً لعمليات مشابهة في فرنسا وبرلين. كذلك هو يريد الترويج لمقولة أن ما تواجهه إسرائيل من مقاومة ضد احتلالها فلسطين ليس سوى جزء من الإرهاب الذي يضرب العالم الغربي، فيما يراهن بذلك على نجاحه في التغطية على إخفاق سياسات حكومته في توفير الأمن للمستوطنين والجنود.
أما البعد السياسي الظرفي لهذا الترويج المدروس والهادف، فهو أنه يأتي في مقابل الضغوط الأميركية والأوروبية لتحريك عملية التسوية، وخاصة أن نتنياهو يواجهها بالتعنت، في محاولة لانتزاع المزيد من التنازلات من السلطة الفلسطينية.
وحقيقة أن عملية القدس التي تأتي امتداداً لانتفاضة الشعب الفلسطيني لا تلغي الخصوصية التي تتمتع بها كل عملية على حدة. فإلى جانب نجاحها في إلحاق خسائر مؤلمة في صفوف جنود الاحتلال، يبقى لتنفيذها في القدس وقع خاص، لما لها من رمزية ومكانة في الوعي والوجدان الفلسطيني، وأيضاً لكونها ساحة انطلاقة الانتفاضة الحالية. وإسرائيلياً، يتغنى القادة الصهاينة بتمسكهم باحتلال هذه المدينة المقدسة، التي أغرقوها بقواتهم الأمنية والعسكرية، وخصّوها بإجراءاتهم التي تهدف إلى بث الشعور بالأمن لدى المستوطنين.
في ظل هذه الأجواء، أكدت العملية الأخيرة قدرة الشعب الفلسطيني على تجاوز كل منظومات الإنذار الاستخباري، ومحدودية فعالية كل الخيارات القمعية التي يمارسها الاحتلال بحق المنفذين وعائلاتهم. فبعد مرحلة من التغني والتمني، تنوعت أساليب التعبير عن ذلك لدى قادة الاحتلال، الذين إن ترددوا بالاحتفال الرسمي لتوهمهم التغلب على الانتفاضة، نجحت هذه العملية في إجهاض هذا الوهم، وكشفت أن كل إجراءات الاحتلال السابقة لم تنجح في تطويع إرادة الشباب الفلسطيني عن مواصلة النهج المقاوم، الذي بات فيه لكل عملية دويّ يتردد في أروقة أجهزة الاستخبارات، والقيادة العسكرية، والمؤسسة السياسية، ولدى الجمهور عامة.
المفهوم، الذي أظهرته وجاهرت به هذه العملية، أنها شكلت تجسيداً للخيار الوحيد أمام الشعب الفلسطيني في مواجهة البدائل التي يحاولون حشره بينها، وهي تراوح بين الخيار التسووي الفاشل والظالم، وبين الخضوع للاحتلال ولسقوفه السياسية ولإجراءاته القمعية. وذلك لحساب مخططات الشرط الأساسي لنجاحها طمس قضية فلسطين، ووقودها اللازم شتات شعبها. لكن مسلسل العمليات الذي ينفذه فلسطينيو الداخل أبلغ تعبير عن نضجه في فهم هذه المخططات، وإرادته في التصدي لها. وخياره بأنه لا بديل عن الانتفاضة والمقاومة.
هكذا، شكلت العملية، في البعد الإقليمي، رداً على خيار التخاذل والهرولة نحو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وأوضحت أن قرار استمرار المقاومة ليس أسير أولويات أنظمة ترى في استمرار الانتفاضة مصدر تهديد لخياراتها التي تقوم على أساس التسوية، على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته، كمدخل للتحالف مع العدو. ويؤكد الشعب الفلسطيني في تمسكه بخيار الانتفاضة والمقاومة، بما توافر من إمكانات، أن الرسالة الأهم للعملية في هذه المرحلة التاريخية أن الشعب الفلسطيني له بوصلة واحدة هي فلسطين، وأن أي محاولة لحرفها نحو أولويات مختلقة ستواجه بمزيد من العمليات والتضحيات في عمق الكيان الإسرائيلي.
أيضاً، بات بالإمكان القول: مهما تكن الخلفيات والارتباطات التنظيمية لمنفذ العملية، فإن النضج الذي يتمتع به الشعب الفلسطيني إزاء ما يحاك حوله من مخططات تستهدف إخماد شعلة القضية الفلسطينية، كفيل بتحصينها، وأن على كل المراهنين أن يترقبوا في كل مرحلة ما، أن يعيدها إلى الصدارة كأولوية تفرض نفسها على الواقع الإسرائيلي والإقليمي وحتى الدولي.
أما عن خيارات الرد الإسرائيلي، فهي المزيد من الشيء نفسه، في ظل أن ما يحكم قادة الاحتلال أكثر من عنوان يشكل كل منها حدّاً يضبط حركة جيش الاحتلال: الأول أنهم لا يستطيعون البقاء مكتوفي الأيدي، ولا هو النهج الذي اتبعته إسرائيل طوال تاريخها، والثاني أنهم يخشون مفاعيل الذهاب نحو خيارات قمعية واسعة تؤدي إلى نتائج عكسية، وكون ساحة العملية ومنطلقها هو الداخل الفلسطيني، فهو يساهم في تضييق خياراتها.
إلى ذلك، قال نائب رئيس الوزراء التركي، محمد شيمشك، في تغريدة على «تويتر»، إنه يدين عملية القدس، ووصفها بـ«الإرهابية الحقيرة»، مضيفاً: «الإنسانية تستحق أن تتّحد الأمم ضد الإرهاب من دون أعذار».