أدهشني صديقي الشاعر محمد ديبو، وهو يقرأ الانتفاضة السوريّة، في مقالته «الطائفية في سوريا: بين الإنكار والتضخيم» المنشورة في «الأخبار»( العدد 1513، الجمعة 16 أيلول 2011)، فهو يقول إنّ «البعد الطائفي حاضر» فيها منذ البداية. طبعاً من دون أن يُظهر لنا كيف كان حاضراً. هو يتعامل مع الموضوع كبديهية، ثم يؤكد فكرته تلك بالقول «إنّ سوريا بلد متعدد الطوائف والإثنيات»، وباعتبارها كذلك ففي الانتفاضة بعد طائفي. وهذا برأيه هو من «حقائق الواقع»، متجاهلاً أنّ وجود الطوائف لا يعني وجود الطائفية، وأنّ تلك الحقائق التي يستند إليها هي بديهيات خاطئة في تفسير الانتفاضة. فالواقع السوري لا يتشكّل من طوائف وإثنيات فقط، بل يتشكل أيضاً من مستويات عدّة للبنية الاجتماعية، اقتصادية وسياسية وإيديولوجية، وغيرها. وما الطائفية «الراكدة»، كما يسميها، سوى حالة وعي تقليدي موجودة في كلّ دول العالم، حتى دول الطائفة الواحدة، وبالتالي لا يمكن الاستناد إليها لتفسير الطائفية، التي لها علاقة بمسائل أخرى، وليس مردها تعدد الطوائف والإثنيات التي هي تشكيلات أهلية قديمة. الثورة السورية هي بالأصل ثورة شعبية، للأوضاع الاقتصادية المزرية نصيب كبير فيها، كما أنّ لأشكال القمع الممنهج أدواراً أساسية كذلك. وبالتالي، هناك سببان فاعلان فرضا تفجر الانتفاضة، هما الوضعية الاقتصادية والوضعية السياسية. من هنا يجب قراءة الانتفاضة السورية. مثلاً، لماذا تركزت في المناطق المهمشة والريفية، ولم تنتقل إلى المدن الأساسية، مع أنّها مدنٌ فيها أكثرية دينية معينة، تُنسب إليها الانتفاضة؟ وليس من الصحيح توصيف الانتفاضة في المقالة بأنّها «بين الحرية والاستبداد» وخلف ذلك «الأمور الرافدة» التي يشار فيها إلى القضايا الطائفية، بل الانتفاضة هي بين فئات مهمشة ومفقرة، وأفراد من طبقات متوسطة وقوى سياسية متعددة التوجهات، وبين نظام سياسي استبدادي. نظام كان غطاءً لتحقيق مشروع اقتصادي بورجوازي، أدى عبر عقود إلى إفقار سبعة ملايين سوري، وتدمير للزراعة والصناعة، وكمّ متأزم من المشكلات الاجتماعية والسياسية. هذا أساس الانتفاضة وسبب اندلاعها، عدا عن شرط عربي ثوري عام.
ولأنّ ديبو ينطلق من أنّ الطائفية «موجودة كوعي محرك لأفعال الأفراد» و«جزء من مكونات الاستبداد»، فهو يعدّها سبباً من أسباب الثورة، ويسمّيها «حالة لا مشكلة»، ويخشى أن تصبح كذلك، مع أنّ جوهر النص يتعامل معها كأنّها موجودة، وفاعلة! يقول، مثلاً، «هكذا كانت تركيبة الحكومة...»، لكنّه لا يتنبه إلى أنّ الطائفية لم تكن سبباً، بل إنّ المنتفضين كانوا دائماً ميالين إلى نفي تلك التهمة عنهم. فشعارات «لا سلفية ولا إخوان»، و«الشعب السوري واحد واحد»، أليس لها دلالة واضحة؟ أليس معناها أنّ الدين والطوائف أمور شخصية وعامة، ولا علاقة لها بالنضال ضد النظام السوري؟ وبالتالي، التمايزات الدينية ليست سبباً للثورة تلك. ذلك ما أراد قوله المتظاهرون، وهو صحيح بالكامل. وهو ذاته ما دفع أغلب مثقفي سوريا إلى تأييد الانتفاضة، ولم يتوانَ حزب سياسي واحد عن المشاركة في الانتفاضة. ولذلك، من يقول إنّ سبب عدم دخول الأقليات في الثورة هو البعد الطائفي فيها، يخطئ. وأمّا التخوفات الطائفية فهي متعلقة حصراً بعدم إعطاء النظام أيّ فسحة تتجذر فيها الهوة بين أفراد الشعب، لكي يشاركوا مجتمعين في ثورتهم ضد النظام. لذلك، يجب أن نقرأ عدم مشاركة الكتلة الأكبر من الأقليات في الانتفاضة من زاوية عدم مشاركة سكان أكبر مدينتين في سوريا بالانتفاضة، علماً بأنّ حديثاً يدور بحدوث مشاركاتٍ شعبيةٍ في مناطق الأقليات التاريخية، وهي تقمع بشدّة، وكذلك الأمر في المدن الكبرى، من دون أن ننسى المشاركة القويّة لمدينة السلمية، بقوة كبيرة، ومنذ بداية الانتفاضة السورية. ما يساعد على تكوّن فهم موضوعي للانتفاضة السورية، هو قراءتها من زاوية كيف بدأت، وكيف تطورت، وكيف كان رد السلطة عليها، الذي كان رداً قمعياً كاسحاً، مع ضخٍ إعلامي متواصلٍ عن أنّ الثورة طائفية. فرض ذلك وقوف الأقليات إلى جانب النظام أو على الحياد، وهو كذلك ما أعاق انتقالها بسرعة إلى بقية المدن كحالة تونس، عدا عن اندلاعها في شروط سوريّة لم تنضج كفاية، كالشرط المصري والتونسي. وبالتالي حاول النظام السوري حصر الانتفاضة وتشويه سمعتها منذ اليوم الأول لاندلاعها. وهذا ما لم تعمل على تجاوزه الأحزاب السياسية السورية، ولا تنسيقيات الثورة ولا المثقفون. الأسوأ أنّهم يتبنّون فهماً ضيقاً للثورة السورية وتصويرها كأنّها فقط ثورة حرية ضد الاستبداد، بينما هي ثورة فئات مفقرة ومهمشة، وأفراد من طبقات متوسطة، ولاحقاً دخلت فيها قرى ومدن كاملة، ضد نظام قمعي إفقاري.
هل يعني ذلك نفي الأديان، والطائفية السياسية كسبب للثورة؟ أقول نعم، ولكن هل ينفي ذلك وجود أيّ طائفية سياسية تحاول التأثير في الثورة؟ أقول لا. فما غاب عن رؤية صديقي، متعلق حصراً، بدور القوى الإسلامية (الإخوان المسلمون) ومحاولات البعض الطائفي الركوب على الثورة، ومثالنا هو بعض المواقع الإعلامية والقنوات التلفزيونية كـ«الوصال»، وتلك الجهات لا علاقة لها بنشوء الثورة.
قد تعود إشكالية الطائفية السياسية إلى أزمة الثمانينيات التي لم تُحلّ، وأبقاها النظام مسألةً خامدةً «راكدة» تحت الرماد. وحينما بدأت الانتفاضة أعاد تثميرها، وتخويف الأقليات منها من جديد، لكن من حزب طائفي. وساعده بذلك تلك القوى الطائفية بالفعل، التي لم تُقدّم كشف حساب أمام السوريين، ولم تعترف بطائفيتها وعنصريتها، ولم تتجاوز عقليتها تلك على الإطلاق، ولم تعترف بدورها عن تلك الأزمة، بل والأنكى أنّها تتهرب من مسؤوليتها بحجة أنّها من فعل «الطليعة المقاتلة»، وكأنّها لم تكن تمتلك مشروعاً طائفياً للمجتمع حينها. عدا عن أخطاء قسم من المعارضة السورية في تعاملهم مع تلك الحركة، قبل عدّة سنوات، من دون أن يشترطوا عليها أن تنتقد نفسها، وتقدم نفسها كحزب سياسي جديد يستند إلى الدين، من دون أن يكون تسييس الدين هو مشروعه السياسي، وبالتالي تحوّلها إلى حزب وطني عام برؤية دينية لا تؤثر على البرنامج السياسي للحزب. ذلك عدا عن تعويم سياسي لبعض الأفكار قامت به بعض أوساط المعارضة، تقول إنّ سوريا بلد أقليات حاكمة وأكثرية دينية محكومة. وهذا ما استفاد منه النظام، وراح يتكلم على جماعات سلفية وإمارات وعودة الإخوان، وغير ذلك، رغم أنّه لم يظهر لتلك الإمارات والجماعات أيّ دلائل في سوريا، سوى من خلال التخويف الإعلامي المستمر. وبالتالي، لو أراد مثقفونا والأحزاب السياسية الاستفادة من ذلك الواقع، لاستطاعوا بالفعل تفنيد العقليات والقوى الطائفية، وكل كلام على «طائفية راكدة» يقول بها صديقنا محمد. لا يا صديقي، ليس هناك «طائفية راكدة» يمكن العبث بها، فمضيّ سبعة أشهر على بدء الانتفاضة من دون تفعيل هذه القضية، دلالة أكيدة على خطأ الاعتماد عليها لتفسير التخوفات الطائفية.
لا أقصد بكلامي السابق عدم تشويه سمعة الانتفاضة، ولا الدفاع عن أخطائها، ويجب إظهار أخطائها بالتأكيد، لكن لا يجوز وصمها كذلك بالطائفية، أو اعتبار الطائفية بُعداً من أبعادها، فالطائفية حديثة بامتياز ومسألة سياسية بالتحديد، ومتعلقة بدور الإخوان والسلطة والإعلام الذي يبثه الجانبان. وما حدث في بانياس وحمص وغيرهما، حوادث هامشية وطارئة، ومتعلقة بقوة قمع السلطة للانتفاضة، ولولا ذلك لرأينا أغلبية أهالي حمص ـــــ كما حدث يوم اعتصام الساعة ـــــ وأهالي بانياس، وغيرها من المدن والقرى والبلدات، تطالب بحقوقها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتشترك بالانتفاضة الشعبية.
أكثر من نصف سكان سوريا مفقرون، وقلّة قليلة منهم هي من تتحكم بثروات البلاد والشعب، وما تشهده البلاد هو انتفاضة شعبية ضد سلطة استبدادية أَفقرت الشعب وأذلّته. هذا أساس الانتفاضة. ومن هنا لا ننكر الطائفية السياسية كسببٍ لأنّها لم توجد كسببٍ بكل بساطة. لكنّ صديقي محمد يضخم من وجودها، وهو بالتأكيد ليس طائفياً، ولذلك كان هذا النقد.
* كاتب سوري