قيل الكثير، وكتب الكثير عن تقلبات وليد جنبلاط واستداراته السياسية التي حيّرت الأقربين منه والأبعدين عنه، على حدّ سواء، منذ 2005 وحتى الآن (علماً بأنّ التقلّب وتغيير التحالفات هما من السمات الأساسية للطريقة التي يمارس بها السياسة منذ أن ورث الزعامة عقب استشهاد كمال جنبلاط في 1977). والتفسير الشائع لذلك القفز المتكرر بين المواقف والتحالفات المتناقضة هو أنّ وليد جنبلاط، بسبب علاقاته الدولية الممتازة والذكاء الحاد الذي يتمتع به، يستطيع باستمرار أن يلتقط اتجاه الرياح الإقليمية والدولية، وأنّه يستدير مع تلك الرياح دائماً من أجل «حماية طائفته». ويتحجج جنبلاط نفسه «بحماية الطائفة» عند كل قفزة من قفزاته السياسية، وكأنّ الطائفة الدرزية تمتلك «أمنها القومي» الخاص، بمعزل عن باقي الشعب اللبناني والمنطقة العربية التي يعيش فيها أبناء الطائفة. لكن الهدف الحقيقي والوحيد، الذي يجتهد جنبلاط من أجله في محاولاته الدائمة لاستشعار موازين القوى الإقليمية والدولية من حول لبنان وفي تغيير مواقفه وتحالفاته بما يتناسب مع تلك الموازين، هو الحفاظ على «حكمه» للطائفة الدرزية، وعلى استمرار هذا «الحكم» مع ذريته من بعده. ومن هنا يمكن تفسير حرصه الشديد على التحكم بالحصة الدرزية خلال تأليف الحكومة، ويمكن أيضاً تفسير استماتته في تملّك كامل الحصة الدرزية في التعيينات التي شرعت فيها الحكومة. وذلك هو، بالمناسبة، السبب الحقيقي الكامن خلف ثورة طلال أرسلان العارمة أثناء تأليف الحكومة، حتى لو لم يجرؤ على توجيه ثورته تلك باتجاه جنبلاط (آخذاً انتخابات عاليه المقبلة بالحسبان)، وحاول التلطي خلف شتائمه لنجيب ميقاتي. ويذهب جنبلاط دائماً إلى النهاية في جميع مواقفه، مهما كانت متناقضة، لعلمه بأنّه، كملك مطلق لطائفته، لا يمكن أن يخضع لمحاسبة من أحد. وبالتالي لا يمكن أن يقفل في وجهه «خط الرجعة» من أي موقف. فبالرغم من كلّ حفلات الصياح التي قادها في ساحة الشهداء ووصل فيها إلى حد نعت بشار الأسد بـ«يا قرداً لفظته القرود»، عاد واستُقْبِل بين حلفاء سوريا في لبنان، عندما قرر القفز إلى صفهم، لا بل عاد وأصبح من زوار دمشق المنتظمين. وقد بانت خطورة ذلك الأمر في ما تسرب عن جنبلاط في ويكيليكس حول تخوّفه أمام السفير الأميركي الأسبق جيفري فيلتمان، من انهيار الصورة المخيفة للجندي الإسرائيلي في عيون العرب إثر حرب تموز 2006. وإذا علمنا أنّ هذا الأمر هو بالضبط أحد أهم الإنجازات التاريخية التي أنجزها حزب الله في حرب تموز، يمكن من خلال ذلك المثال الفاقع تقدير مدى فداحة وشدة سوء ما يمكن أن يسمح جنبلاط لنفسه بالوصول إليه في «ساعات التخلّي» والاستكانة إلى اتجاهات رياح دولية توحي بإمكان استدامة الهيمنة الأميركية ـــــ الإسرائيلية على المنطقة.
إنّ وضع جنبلاط «الحفاظ على الزعامة» كهدف وحيد لممارسته للسياسة جعل منه «حارس الهيكل» الأساسي للنظام الطائفي اللبناني، وجعل من موقعه ذاك «الثابت» الوحيد لديه. أما المواقع والمواقف الأخرى فجميعها «متحوّل»، يمكنه القفز و«النطنطة» في ما بينها، حسبما تدعو الحاجة. من هنا يمكن فهم موقفه الحالي ضد اعتماد النسبية في قانون الانتخابات النيابية الجاري النقاش حوله، داخل الأكثرية. فبالرغم من كلّ الطلاء الثقافي والحداثي الذي يحرص جنبلاط على أن يطلي نفسه به باستمرار، وبالرغم من كل نصائحه التي يوزعها يميناً ويساراً حول ضرورة التغيير، وكان آخرها نصائحه للنظام السوري، شكل بموقفه ذاك سداً منيعاً في وجه أي تغيير يمكن أن يفتح ولو كوّة صغيرة في جدار النظام، بما يؤدي إلى إمكان تطويره في المستقبل.
إنّ وقوف جنبلاط هذا الموقف الشديد التخلف والرجعية، على يمين من كان يسمّيهم حتى الأمس القريب اليمين الانعزالي اللبناني، يشي بعدم القدرة على أي تكيّف مع روح العصر. فإذا كان صحيحاً أنّه يمتلك الآن مئة بالمئة من الحصص النيابية للمناطق التي يسيطر عليها انتخابياً، فذلك الأمر لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. وإذا كان هناك من دروس يمكن أن تستقى من الربيع العربي الجاري حالياً من حولنا، فهي أنّ التحكم بالبشر لا بد أن يصل إلى نهايته المحتومة، طال الزمان أو قصر، وإنّ شكل تلك النهاية يعتمد على شخصية المتحكم بالبشر أساساً، وقدرته على استيعاب التطور الحاصل من حوله. ومن نافل القول إنّ ذلك الأمر ينطبق على النظام الطائفي اللبناني الذي لا يمكن أن يبقى كجزيرة متخلفة معزولة، وخاصة إذا ما نجح الربيع العربي في نقل المنطقة إلى عصر ديموقراطي حقيقي. وعلى جنبلاط وباقي أباطرة النظام، أن يعوا أنّ مبادرتهم إلى تطوير النظام نحو الديموقراطية الحقيقية وتخليصه من السرطان الطائفي، هي الطريق الوحيد لتجنب انفجاره بين أيديهم، وبالتالي لتجنب جرفهم (أو جرف ذريّاتهم) عن عروشهم التي لا يمكن أن تستمر إلى أمد طويل.
لقد أخطأ جنبلاط خطأً تاريخياً عندما استنتج، بعد غزو العراق، أنّ عودة الاستعمار المباشر إلى المنطقة هي عودة نهائية، وقرر في 2005 (كما كان يقرر إقطاعيو جبل لبنان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) الالتحاق بركب السيد الإمبراطوري الجديد للمنطقة. لكنّه عاد وقفز من المركب الأميركي، عندما أخفق الأميركيون في العراق، وعندما صمد حزب الله في حرب تموز، فتغيرت المعادلات في المنطقة. ونتمنى أن لا يخطئ جنبلاط خطأ تاريخياً جديداً، ويقوم بؤد الفرصة، التي يبدو أنّها جدية هذه المرة، لاعتماد النسبية في الانتخابات البرلمانية، ما يمثل الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل لتطوير النظام الطائفي اللبناني. ذلك أنّ ترف العودة عن الأخطاء التاريخية من دون قدرة أحد على المحاسبة، والمستمد من طبيعة النظام اللبناني، لن يدوم إذا ما انفجر النظام انفجاراً عنيفاً يوماً ما.
ونتمنى، من ناحية أخرى، أن تكون لدى باقي أطراف الأكثرية الحالية الإرادة السياسية الكافية لمنع جنبلاط من ممارسة حق النقض الذي يتمتع به حالياً، بوجه اعتماد النسبية في قانون الانتخابات، وخاصة أنّ لدى جميع تلك الأطراف مصلحة باعتماد النسبية. وينطبق ذلك الكلام بالأخص على حزب الله، لما تحققه النسبية على المدى الطويل من تخفيف للاحتقان الطائفي، الذي لا بد أن ينعكس تخفيفاً للضغط الداخلي على المقاومة.
* كاتب لبناني