يكتسب اليوم المسلسل التركي المدبلج «وادي الذئاب»، في الأوساط الطرابلسية الفقيرة والمتوسطة، شعبية كبيرة جداً. فهو على حدّ تعبير أحد الشبّان «يتضمن كلّ ما يحدث هذه الأيّام، من مقتل الحريري الى حرب غزّة. فإذا أردت أن تعرف من قتل الحريري فعليك مشاهدته». شعبية المسلسل الهائلة في المدينة، تفضحها أعداد النسخ المرتفعة التي تباع كلّ يوم هناك، لتفصح عن الشيوع الكبير لفكرة «المؤامرة الكونية»، في جزء من الثقافة الشعبية هذه الأيام. فحين ينسب المشاهدون الى مسلسل تركي ـــــ والجنسية التركية للمسلسل بحدّ ذاتها، تولّد شتى أنواع التكهنات لديهم ـــــ احتواءه التفسير الكامل لما يحصل من حولهم من أحداث سياسية واجتماعية، فإنّ ذلك يعبّر عن قلّة التسييس لدى المواطن العربي الفقير، وإحساسه بعدم القدرة على التحكّم بمصيره. فالمعرفة هنا تعبير، في الحقيقة، عن قلّة المعرفة والجهل، واليقين الذي توفّره ساعة من مشاهدة التلفاز تعبّر عن حياة كاملة تسبح في الريبة وقلّة الثقة... والمؤامرة موجودة لأنّ المواطن غير مؤثّر. الا أنّ ريبة مشاهدي التلفاز في الوطن العربي لا شك ازدادت في الفترة الأخيرة، خصوصاً بعد تضخّم خطاب «المؤامرة» البروباغاندي، خلال الثورات العربية الأخيرة. فالاحتجاجات الجماهيرية الثورية التي تجتاح الوطن العربي منذ أكثر من ستة أشهر، تدلّ على أنّها معركة شاملة على كلّ الصعد: على الصعيد السياسي هي معركة تحرّر شعب ضد سلطة استبداد، وعلى الصعيد الاقتصادي هي معركة بين طبقة رأسمالية مستغلة تنهب موارد المنطقة وبين كادحين مُستغلّين. الا أنّ هناك جانباً آخر مهماً لما يحصل اليوم أيضاً، هو الحرب الحاصلة على المستوى الايديولوجي. وتلك معركة يجب ربحها، كما المعارك الأخرى. إنّ جزءاً كبيراً من الايديولوجية المهيمنة لبعض الأنظمة العربية، قبل وخلال الثورة، يستند إلى نظرية «المؤامرة» بما هي آلية بلاغية لابتداع شرعية ما لأنظمة فاقدة لأي مكوّن ديموقراطي حقيقي. فتكتسب المعركة على مستوى الأفكار السائدة أهمية كبيرة في معظم الأحيان، بسبب وظيفة تلك النظم الفكرية بتنحية كل ما لا يستقيم في سردية السلطة جانباً، لتحرف رواية الأحداث في سردية ساذجة قوامها عدو خارجي «شرير» وبطل داخلي «خيّر» دائماً. أبرز مثال على ذلك حالياً هو الثورة السورية، خصوصاً أنّ «المؤامرة» بدت الركيزة الأساسية التي اعتمد عليها النظام السوري في تكوين سرديته وحجرها الأساس مع عبارة «وجود العصابات المسلحة و المندسّين».
إنّ نظرية المؤامرة بحد ذاتها هي مركّب لاعقلاني وتلفيقي الطابع، أيّ إنّها تحتوي على مجموعة اعتباطية ومتناقضة من التواريخ والاشخاص والأحداث التي تُربط عمداً ببعض، بشكل لا يصمد أمام أي بحث علمي جدّي ومحايد. فقد يراوح تعقيد المؤامرة من أفكار مفاجئة بنسبة اللامعقول فيها («النائب جمال الجرّاح هو وراء الأحداث في سوريا»)، الى سيناريوهات مشغول عليها تبدو للوهلة الأولى قريبة تماماً من المعقول. ومثال على ذلك هو رواية «المؤامرة على سوريا» التي جمعت في لحظة من اللحظات، وفي جملة واحدة: تيار المستقبل، الإخوان المسلمين، «عصابات» بندر بن سلطان، قطر، السعودية، تركيا، أوروبا، اسرائيل والولايات المتحدة... لكن لم يشرح لنا أحد كيف ولماذا جُمعت كل تلك العناصر التي لا تربطها شبكة مصالح مشتركة وواضحة، بطريقة «من كل وادي عصا»، الا ضد النظام السوري، وفي هذه اللحظة التاريخية بالذات.
فنظرية المؤامرة هي في عمقها رؤية جوهرانية للعالم تَستبدل فكرة إمكانية تبدّل الخيارات السياسية وعلاقتها بالمصالح الاقتصادية، برؤية للعالم تقوم على تقسيمه بين خير وشرّ، شرق وغرب، بين «صهيونية عالمية» تريد السيطرة على «الأمة الاسلامية» وما شابه ذلك من فانتازيات، يمكن استبدالها الواحدة بالأخرى حسب المطلوب. فنظرية «المؤامرة الكونية»، الأكثر رسوخاً في المخيّلة الجمعية، هي في طبيعتها نظرية ماورائية، يكون إذن من المستحيل اثبات صحتها أو تفنيدها كلياً. ولنا أن نرى ذلك في بعض الانتاج الايديولوجي «لممانعة الغرب الامبريالي»، إذ يصوّر «الغرب كلّه» كأنما هو في عداء كامل وأبدي لسوريا وايران. ويُعظّم الخطر الامبريالي الى حدود غير معقولة، فتصبح أيّ مقاومة لهذا الخطر، ولو إنشائية، كنزاً ثميناً يجب المحافظة عليه، مهما كان الثمن. يصبح التاريخ حينها سلسلة هزائم محتّمة... لولا «الممانعة الدائمة» لسوريا وايران في وجه «الامبريالية».
يُتناسى، في كلّ ذلك مثلاً، واقع أنّ الولايات المتحدّة تفاوض ايران وسوريا في العراق، عندما يتعلّق الأمر بما يسمى «العملية السلمية» الاستعمارية في بلاد ما بين النهرين، وباقتسام نفطه. فقد أعلنت مصادر في حكومة الاحتلال في العراق، منذ أيام، أنّه قريباً سضخّ أكثر من 150 ألف برميل نفط يومياً الى سوريا «لمساعدتها خلال أزمتها الراهنة». إنّها نفس الامبريالية التي تتحالف مع «الممانعتين» الايرانية والسورية، وذلك عكس ما يدور من صراع بينهما في لبنان وفلسطين. الا أنّ نظرية «المؤامرة» تفضّل عدم اقحام وقائع محرجة جداً في سرديتها كهذه. فتتعارض «المؤامرة» مجدداً، مع ما كشفته جريدة «الغارديان» البريطانية أخيراً من أنّ الخارجية الأميركية دعمت نقاشاً لمسودة من 3000 كلمة، وُزعت على بعض المعارضة السورية في مؤتمر «سميراميس» الأخير، وذلك في محاولة للدفع باتجاه «الحوار مع النظام السوري». ويحدث أيضاً أن تستعمل نظرية المؤامرة السائدة في الآونة الأخيرة المثال العراقي، على أنّه الدليل القطعي للزعم بأنّ «الثورات العربية» ليست الا «مؤامرة امبريالية»، من أجل اثارة «الفوضى في العالم العربي»، وذلك لتعويض نقص واضح في قدرتها على الاقناع. فالهجوم على العراق واحتلاله، وتفتيته مذهبياً وإثنياً، كان بالفعل مؤامرة استعمارية، بكل ما للكلمة من معنى، وذلك من أجل السيطرة على الموارد النفطية، من قبل الامبراطورية الأميركية لعقود مقبلة. وقد كشفت بالمناسبة صحيفة «الاندبندنت» البريطانية (19 نيسان/ أبريل 2011) أنّ شركات النفط البريطانية اجتمعت بالحكومة في أواخر 2002 من أجل تأمين عقود النفط في المرحلة التي ستلي سقوط نظام صدام حسين. وحسب غريغ موتيت صاحب كتاب «Fuel On Fire» (2011) يمكن فهم هذا الأمر على أنّه التقاء مصالح الارادة السياسية للحكومات الغربية بإبقاء أسعار النفط منخفضة على المدى الطويل، مع رغبات شركات النفط والغاز للدخول مجدداً الى مناطق كانت قد أقصيت عنها، بعد التخلّص من الاستعمار الغربي المباشر، في منتصف القرن الماضي. وهكذا نرى أنّ حقيقة وجود المؤامرة تحددها العوامل المادية، المحلّلة عقلانياً، لا الايديولوجية والتصوّرات المسبقة التي لدينا.
إلا أنّه وعلى الصعيد النفسي، تحمل نظريات المؤامرة كمّاً لا بأس به من الشحنات المشبعة، لجمهور مؤدلج يحتاج الى تفسير مريح لما يحدث، لدرجة أنّه مستعدّ لتصديق ادعاءات كثيرة، دونما تدقيق كبير في البراهين المقدّمة. مثال على تلك الرغبوية، هو استعداد جمهور تيار المستقبل في لبنان مثلاً، لتصديق «مؤامرة» قيام «سوريا وحزب الله» بقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، مهما قدّم الغير من براهين على تسييس المحكمة، أو على تزوير للشهود، طوال آخر 5 سنوات. فاستبعاد فرضية اسرائيل أو طرف آخر، تفرضه «بديهية» المؤامرة لدى هذا الجمهور. مثال آخر هو اقتناع البعض أنّ ما يحصل في ليبيا اليوم هو عملية «تحرير للشعب الليبي من الطاغية»، بينما الأمر في الحقيقة ليس سوى هجوم استعماري من «الناتو» الذي تهمّه موارد الغاز والنفط، وذلك بالتزامن مع القتل الدائم للعقيد القذافي لشعبه، بشكل وحشي.
وترجع نظرية المؤامرة الى كونها علاقة صنمية «بالمؤامرة الامبريالية» التي يعزى اليها كل ما يحدث من شرور في العالم، ويحمل لواءها كثير من اليسار العربي والعالمي، المبتذل اليوم. يسار يرى في توتّر علاقة الولايات المتحدة مع بعض الدول (سوريا، إيران وفنزيلا) دليلاً على الطبيعة المضادة للامبريالية لهذه الأخيرة، بينما الحقيقة هي أنّ الولايات المتحدّة هي التي تعادي هذه الدول في أمكنة، وتساومها في أمكنة أخرى، وليس العكس. فالسياسة الخارجية لتلك الدول هي ردّ فعل، ولا تعبّر عن ايديولوجية حقيقية، متناسقة، قوامها قتال الامبريالية أينما كان، كما كان الأمر عند مصر جمال عبد الناصر أو فييتنام «هو شي منه» أو الاتحاد السوفياتي أو كوبا فيديل كاسترو، في النصف الثاني من القرن الماضي. فكما لا يمكن الدفاع عن تلك الأنظمة الاستبدادية، فقط لأن الغرب قرّر معاداتها، لا يمكننا استبعاد الوجود الموضوعي للمطامع الامبريالية في منطقتنا، ليبقى أنّ من أكثر مفاعيل نظرية المؤامرة السائدة اليوم هو أنّ الاستبداد واليسار «اللفظوي» المبتذل، وهما المعاديان للإمبريالية انشائياً، كما الامبريالية، هم كلّهم «في الخندق نفسه» ضد الشعوب العربية الثائرة. ومن هنا الأمل الدائم، والكبير، بالشعوب العربية، وبنجاح ثورتها.
* باحث لبناني