ما جرى يوم 25 يناير / كانون الثاني وما تلاه في مصر، أظهر أنّ تحوّلاً نوعياً قد حصل في حركة الاحتجاج التي بدأت قبل خمس سنوات تقريباً. ولا شك في أنّه سوف ينعكس بنحو كبير على مجريات الصراع في المرحلة المقبلة. فرغم بعض حالات التذمر، التي كانت بادية على قطاعات واسعة منذ سيطرة نمط مافياوي على الاقتصاد، وهيمنة «رجال الأعمال» (الذين هم مافيا بكل معنى الكلمة) على مفاصل السلطة، ظل الاحتجاج محصوراً في بعض النخب والأحزاب المعارضة، وهي احتجاجات لم تكن تتجاوز «الكلام» والكتابة في صحافة توزّع بنحو محدود.
لكن منذ نهاية سنة 2004، تحققت «نقلة» تمثلت في تكوين حركة «كفاية»، من طيف متعدّد الاتجاهات. قررت هذه الحركة أن تطرح مسألة الاعتراض على توريث الحكم والتمديد لرئيس يحكم منذ سنة 1981، فقامت بأنواع من الاحتجاج السياسي، لكنّها كانت محصورة في «نخبة»، لم تتسع بعد ذلك، غير أنها كسرت حاجز الخوف من مواجهة السلطة، وربما هذه هي قيمتها الحقيقية.
وكانت السلطة قد أقرّت سنة 1997 قانوناً يفرض إعادة الأرض المصادرة زمن ثورة يوليو / تموز الى «أصحابها الأصليين»، لكنّ تطبيقه تصاعد في السنوات الأولى من القرن الجديد. أثار ذلك حركات احتجاج كبيرة من الفلاحين، وكان تضامن جزئي معهم من «النخب» من دون أن يتحقق أمر مهمّ، الأمر الذي أوجد حالة احتقان كبيرة في الريف، كانت تعبّر عن ذاتها في بعض الأوقات، لكنّها لم تصبح حركة فاعلة.
ومنذ 2006، بدأت حركات احتجاج طبقية، كان أساسها العمال خصوصاً (عمال المحلة)، لكنّها بدأت تتسع لتتضمن مختلف أنواع الاحتجاج، النوعي والمناطقي، وظلت متفرقة وبأهداف محدودة جزئية، ودون تنسيق أو تطوير حقيقي في أدائها. ظلت، في الغالب، عفوية ومطلبية، رغم تصاعدها في 2009 حين شملت قطاعات عمالية متعددة، وضمت عدداً كبيراً من المشاركين.
لكنّها انعكست على قطاع اجتماعي جديد هو قطاع الشباب، الشغوف بالإنترنت. قطاع بدأ التفاعل مع حركات الاحتجاج العمالية عبر التضامن معها يوم 6 إبريل / نيسان 2009، من خلال الدعوة الى إضراب عام، نجح الى حدٍّ ما. ودفع نجاحه هذا الى توهم أنّ موقع الفايسبوك قادر على تحريك الشارع، لهذا شاعت الدعوات الى الإضراب العام، من دون أن تلاقي نجاحاً. لكن ما تحقق هنا هو بدء تفاعل قطاعات من الشباب كانت تتسع، مع مشكلات الطبقات الشعبية، ومع الدعوة إلى التغيير. ومهما قيل في خبرة هؤلاء السياسية، فإنّ ميلهم هذا كان يعبّر عن عمق الأزمة المجتمعية، إذ إنهم أبناء فئات اجتماعية متوسطة أو مفقرة. وكان الانقطاع عن السياسة عندهم ناتجاً من «سوء» الأحزاب القائمة، وعجزها، وطرحها لأهداف لا تمس المشكلات المجتمعية، ومراوغة العديد منها للسلطة. وبالتالي، كانت الأجيال الشابة تشعر باغتراب عما تطرحه، وتبدو أنّها في عالم آخر.
أما الأحزاب و«النخب» فقد أصبحت مسألة الديموقراطية هي هاجسها، إلى الحدّ الذي كان يقود أحياناً إلى «شخصنة» الصراع. حصل ذلك من خلال تحويل الصراع ضد حسني مبارك وابنه، في مواجهة الميل السلطوي لاستمرار الرئيس «مدى الحياة»، ثم توريث السلطة لابنه. ولهذا ظلت نخب قليلة العدد تقوم بعمل «روتيني» هو الاحتجاج في مناطق معينة بعيداً عن الطبقات الشعبية. وكان يبدو أنّها تتجاهل كل مطالب هذه الطبقات، أو لا توليها أهمية كافية. ولقد كانت الأحزاب الشرعية المعارضة تتهمش، خصوصاً تلك التي تدّعي تمثيل اليسار، نتيجة مواقفها الكلامية أو المهادنة للسلطة، أو المحصورة في إطارها الضيّق المشار إليه. كذلك فرض تصاعد الحراك الاجتماعي تراجع دور جماعة الإخوان المسلمين. هذه الجماعة التي لا تولي القضايا المعيشية أهمية، وتركز على «الأخلاق» و«القيم»، وهو أمر طبيعي ناتج من تموضعها الطبقي، الذي دفعها إلى التوافق مع السلطة على قانون إعادة الأرض للإقطاع، وخصخصة القطاع العام.
وبالتالي، كانت الصراعات الطبقية تتصاعد في كل أرجاء مصر، لكن في تشتت واضح، ودون استراتيجية تجمعها، ولم يكن يمرّ يوم دون أن تشهد أكثر من حراك لقطاع من قطاعات المجتمع، يطرح قضايا مطلبية محدَّدة تخصه. وظلت المعارضة السياسية تركز على الشعار ذاته: يسقط حسني مبارك، لا للتوريث. وشباب الفايسبوك (الذين منهم شباب 6 أبريل) يدعون بين الحين والآخر إلى إضراب من دون أن يلقى تجاوباً يذكر. ولهذا، حين بادروا بالدعوة إلى إضراب يوم 25 يناير / كانون الثاني، كانت الأحزاب المعارضة متشككة في إمكانية النجاح، رغم قرار بعضها المشاركة (عدا التجمع وبعض الناصريين)، وكانت التظاهرة تبدو كسابقاتها. ذلك، رغم أنّ الأجواء بعد انتفاضة تونس كانت تشجع على المشاركة والأمل في حصول أمر مختلف. ولقد حصل هذا الأمر المختلف، إذ أفضت الدعوة الى انتفاضة حقيقية، شملت الأحياء الشعبية وامتدّت الى العديد من المحافظات، لأول مرة ربما منذ انتفاضة 18 / 19 يناير / كانون الثاني 1977، وبمشاركة قطاعات شعبية هذه المرة، خصوصاً من الشباب. فقد عاد الشباب إلى الشارع، وهذه هي السمة الأساسية الأولى التي يمكن تلمسها مما جرى.
إذن، لقد دخل الشباب الصراع، وانتقل الاحتجاج الى الفئات الشعبية، وبالتالي لم تعد المسألة مسألة دعوات على الفايسبوك، أو وقفات اعتصام أو تظاهر لنخب وأحزاب ضعيفة، وإن كانت لم تصل بعد الى الطبقات المفقرة كلها. هذه هي النقلة التي تحققت، وهي نقلة مهمة في سياق تطور الصراع الطبقي. وستكون كلّ أشكال الاحتجاج التالية مترابطة، وسوف يدفع نجاح الانتفاضة الى مشاركة أوسع من الطبقات الشعبية، وهو الأمر الذي يوضح أنّ الأزمة التي تعيشها هذه الطبقات عميقة، الى الحدّ الذي يدفعها للانفجار.
نحن في وضع محلي مأزوم على الصعيد الاقتصادي، وفي وضع عالمي يعيش أزمة اقتصادية طاحنة، ثم لم يعد من الممكن للرأسماليات المسيطرة التحكم في صيرورة تطور الصراع الطبقي.
* كاتب عربي