تواترت تصريحاتُ المسؤولين الجزائريين في الأسابيع الأخيرة عمّا يمثّله عدمُ استقرار السوق النفطية من تهديد لموارد الدولة، وعن ضرورة التحكّم في نفقاتِها من جديد، ووعد وزيرُ المالية، كريم جودي، بـ«ميزانية حذرة» في 2013، مما يعني، حسب ما أوردته الصحافة، عدمَ إنشاء مناصب شغل جديدة في الوظيفة العمومية، وتجميدَ الأجور التي تموِّلها الخزينة مباشرة، أي أجور الموظفين. التقشّف إذاً هو «شعار المرحلة» في كل مجالات الإنفاق العام... باستثناء واحد هو «المجال الروحي» إن صحّ القول، إذ رغم ظهور بوادر الأزمة المالية في الأفق، وما تتوعّد به من وقف لمشاريع منشآت ومرافقَ كثيرة، لا نيّة لحكومة أحمد أويحيى في التخلّي عن مشروع «جامع الجزائر الكبير»، الذي يريد عبد العزيز بوتفليقة أن «يُرفع ليُذكر فيه اسمه»، مهما كان عبئُه على دافعي الضرائب المنهَكين. وتبلغ تكلفةُ هذا المشروع ملياراً ونصف مليار دولار، أي، بعبارة أخرى، قرابةَ 2 بالمئة من إجمالي عوائد الجزائر الخارجية (73،39 مليار دولار قي 2011) وثلاثةَ أرباع عوائد صادراتها غير البترولية ( 2,15 مليار دولار).
وهي تكلفةٌ مرشّحة للارتفاع كما عودتنا سياسات «ترشيد الإنفاق العمومي» وجريناه بكثير من المرارة عند إنجاز «الطريق السريع شرق ــ غرب» (11،2 مليار دولار بدل 7 ملايين حال الإعلان عنه في 2005). ويزيد احتمالاتِ زيادتها أن مسيّري شركة CSCEC الصينية التي أُوليَ إليها بناء «جامع الجزائر الكبير» معروفون باستقامتهم وحسن أخلاقهم. والدليلُ على ذلك تورُّطهم في قضايا فساد أدّت إلى وضع شركتِهم على قائمة دولية للشركات المنصوح بعدم عقدِ صفقاتٍ عمومية معها. ولا تتلخصُ مشاكل التمويل التي يطرحُها هذا المشروعُ في الموارد التي سيستنزفُها إنجازُه، إذ يطرح أيضاً مشكلةَ الموارد التي سيستهلكُها بعد إتمامه وهي غيرُ قليلة. تزعم الحكومةُ أنّه «سيخلق 17 ألف منصب شغل، منها 10 آلاف للجزائريين»، وتتناسى ما سيكلِّفُه موظَّفوه سنوياً للميزانية. وبطبيعة الحال، لم تشرحْ لنا، لا هي ولا أبواقُها الليبرالية، لماذا باسم «الحذر» يُوقَف إنشاءُ مناصب العمل في الصحّة والتعليم والإدارة، وتُنشأ أخرى في الأوقاف والشؤون الدينية. أليست الأوقافُ والشؤون الدينيةُ، بنصّ القانون، قطاعاً من قطاعات الوظيفة العمومية؟
ولا شكّ في أن الرغبةَ الجامحة في رفع لواء الإسلام «عالياً» هي سرُّ تجاوز الرئيس بوتفليقة كلّ هذه الاعتبارات الدنيوية التافهة، وإصرارِه على بناء «جامع الجزائر الكبير»، فلِنشر التقوى والورع في أوساط الشعب يجب أن تشقَّ مئذنتُه عنانَ السماء على ارتفاع 270 متراً (أي، دون فخر لا سمح الله، أعلى بـ60 متراً كاملة من مئذنة جامع الحسن الثاني في الدار البيضاء في «المغرب الشقيق»). كذلك، يجب أن تتّسعَ أرجاؤه لـ120 ألفَ مصلٍّ (أي، أكثر بـ15 ألف مصلٍّ من «نظيره» المغربي). لا أحدَ يعرف لمن سيؤذِّن المؤذنون في الأعالي، على ارتفاع مئات الأمتار، للبشر أم لسكان السماء، ولا كيف ستصلُ جحافلُ المصلّين إلى المسجد والطرقُ على ما هي عليه من اختناق، لكنْ لله في المسوؤلين الجزائريين شؤونْ.
مليار ونصف مليار دولار لبناء مسجد ومكتبة ومتحف ومركز بحوث وقاعة محاضرات، فيما بلغ عجزُ الميزانية في 2011 رقماً قياسياً هو 15,4 بالمئة من الناتج الداخلي الخام، استدعى مضاعفةَ المبالغ المستقاة من «صندوق تنظيم نفقات الدولة» مقارنةً بـ2010 (1761،4 مليار دينار مقابل 791،9 مليار دينار). مليار ونصف مليار دولار لمنشأة دينية، فيما لا يتوقفُ البنك المركزي عن التحذير من انهيار الميزانية إذا لم تستقرّ أسعارُ النفط عند معدّل عال نسبياً، هو 110 دولارات للبرميل. مليار ونصف مليار دولار لمشروع لن يدرَّ على الجزائر شيئاً سوى، ربّما، الدعواتِ الصالحات بتعميم الخير على أهلها ببركةِ رئيسِها وآله ووزرائه. مليار ونصف مليار دولار كان أجدى أن تُصرفَ في إصلاح الطرق وترميم المدارس وتشييد المرافق الاستشفائية. أليس «مستشفى الجزائر الكبير» أكثرَ ضروريةً من «جامع الجزائر الكبير»، على الأقل لتجنيب الجزائريين رؤيةَ رئيسِهم يُعالَج في مستشفى عسكري فرنسي؟
* كاتب جزائري