غزة تلهم اليوم جيلاً جديداً بأنّ المقاومة هي الحل الوحيد لمنع القوى العاتية المسيطرة من التحكم الكامل بمصائر البشرية
لا حاجة إلى الإفاضة حول الدور الحاسم لكسر هيمنة وسائل الإعلام الغربية الرئيسيّة على الفضاء الإعلامي العالمي بفضل الدور المتنامي لتلك غير الغربية، ولوسائل التواصل الاجتماعي، في كشف حقيقة حرب الإبادة الإسرائيلية ووقائعها ساعة بساعة أمام قطاعات لا يستهان بها من الرأي العام العالمي. أدّى توافر مصادر معلومات بديلة في مساحات كالجامعات توجد فيها أصلاً مجموعات مؤيدة للقضية الفلسطينية منذ سنوات، إلى خلق مناخات ملائمة لتنظيم حركة معارضة للحرب الإسرائيلية باعتبارها حرب إبادة تشن بمشاركة الحكومات الغربية، وفي مقدمتها الإدارة الأميركية، التي تقدم كل أشكال الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، وبوصف الصمت عليها يعني التواطؤ لا أقل. بكلام آخر، فإن الكتلة الأوسع من الطلبة الذين انضمّوا إلى انتفاضة الجامعات الجارية حالياً، فعلوا ذلك أولاً على قاعدة موقف أخلاقي - سياسي يلخّصه شعار: «ليس باسمنا». إضافة إلى ما تقدّم، فإن العديد من هؤلاء باتوا يعرفون اليوم التاريخ الفعلي لبلادهم والجرائم وعمليات الإبادة التي ارتكبتها أنظمتها السياسية بحق السكان الأصليين في حالة الولايات المتحدة، وبحق شعوب المستعمرات في حالة الدول الأوروبية، وهم لا يريدون أن يكونوا شركاء بِصمتهم على جرائم مماثلة اليوم.
لقد أعادت حرب الإبادة الإسرائيلية تعريف القضية الفلسطينية في نظر أوساط معتبرة من الرأي العام، على أنها أولاً قضية شعب يكافح من أجل البقاء في مواجهة مشروع استعماري - اقتلاعي إحلالي يجهد لإفنائه. وهي سمحت بربط الحاضر بالماضي، وأظهرت الطبيعة الفعلية للمشروع الصهيوني وغاياته النهائية حيال الفلسطينيين. وقد عكس الشعار المرفوع في جميع فعاليات هذه الانتفاضة، في الولايات المتحدة وفي أوروبا: «من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر»، تلك القناعة حيال الصهيونية. القوى المشاركة في الانتفاضة الطالبية متنوعة، وهي تضم مجموعات سياسية وتيارات ذات خلفيات متمايزة وطلبة من أصول مختلفة. نحن أمام ائتلاف نجد في صفوفه يساريين بتنويعاتهم المختلفة ومسلمين ومسيحيين ويهوداً متدينين وناشطات نسويات ومدافعين جذريين عن البيئة وكتلة عريضة من الطلبة غير المنتمين بالضرورة إلى تيار فكري - سياسي محدد. لكن جميع هؤلاء يتفقون على ضرورة مناهضة حرب الإبادة، ومن يقف وراءها، ويعتبرونها مؤشراً خطراً إلى الوجهة التي يتطور نحوها العالم. فقد أثبتت الحرب الجارية حالياً أن قانون الغاب يسود العالم أكثر من أي مرحلة سابقة، وأن مقولة «النظام الليبرالي الدولي» هي مجرد خرافة، وأن مقاومة التوحش هي الحل الوحيد المتاح في الظروف الراهنة. قد لا يتفق قسم كبير من المشاركين في الانتفاضة الطالبية على البديل المطلوب للنظام الدولي الراهن، وعلى النموذج السياسي - الاجتماعي الأكثر عدلاً، وغالبيّتهم لا ترى تجسيداً لما تطمح إليه في الأنظمة القائمة حالياً في أنحاء الكوكب، لكنهم يجمعون في المرحلة الحالية على الأقل على ضرورة المقاومة ويجدون في غزة نموذجاً لإرادة المقاومة التي لا تنكسر رغم الأهوال والمآسي.
القمع والتنكيل اللذان يتعرض لهما المشاركون في الأنشطة المؤيدة لفلسطين، ومن ثم في الانتفاضة الطالبية، من قبل السلطات السياسية، التي عملت على تجريمهم منذ بداية تحركاتهم عبر اتهامهم بـ«العداء للسامية»، ومن قبل الأجهزة الأمنية التي تتبع سياسة تنكيل بحقهم على المستويين الفردي والجماعي، ومن قبل العديد من إدارات الجامعات التي اتخذت بحق الكثيرين منهم إجراءات عقابية تصل إلى حد الطرد من الجامعة، هي ممارسات تؤكد وجاهة مخاوف العديد من المفكرين الذين حذّروا - وبعضهم مبكراً جداً - من مخاطر التحولات التي تعتمل في داخل «الرأسماليات البرلمانية»، التي تصبح «دول أمن قومي» عندما تجابه معارضة جدية لتوجهاتها السياسية الرئيسيّة، ودعم إسرائيل من بين هذه التوجهات. لكن القمع الموجّه إلى الطلبة كان عاملاً في تأجيج الانتفاضة وتوسيع نطاقها عبر انضمام جامعات أخرى إليها، وربما في خروجها من داخل حرم الجامعات نحو شوارع المدن في القادم من الأيام. ثورات «التحرر الوطني»، من مثل التي حصلت في الجزائر وفيتنام، ألهمت أجيالاً من الثوريين عبر العالم، وغزة تلهم اليوم جيلاً جديداً بات مقتنعاً بأن المقاومة هي الحل الوحيد لمنع القوى العاتية المسيطرة من التحكم الكامل بمصائر البشرية.