قبل السابع من تشرين الأول 2023، كانت السمة الغالبة للوضع الدولي، من منظور الشعوب الغربية أساساً، هي عودة الصراع بين القوى الكبرى على خلفية الحرب الدائرة بالوكالة بين «الغرب الجماعي» وروسيا، في أوكرانيا، والتوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين. وقد سبق هذه العودة تفشي جائحة «كورونا» على النطاق العالمي، ما دفع البعض إلى الحديث عن «زمن كورونا»، باعتباره فاتحة لمرحلة جديدة من الكوارث والويلات، البيئية وغير البيئية، التي ستحلّ ببشرية غير مستعدة لمواجهتها، بفعل التوحش الرأسمالي وطغيان سعيه المحموم لمراكمة المزيد من الأرباح على ما عداه من اعتبارات. ليس من المبالغة القول إن الآفاق كانت مظلمة بالنسبة إلى الحالمين بمستقبل أفضل يسوده قدر من العدل والسلام. اندلعت معركة غزة، وما صاحبها من سياسة إبادة منهجية ومكشوفة للقاصي والداني، اعتمدتها الحكومة الصهيونية الفاشية بزعامة بنيامين نتنياهو في ظلّ الظروف العالمية المذكورة. وعلى أغلب الظن، فإنّ ما يفسّر الانتفاضة الطالبية العالمية، المرشحة للاتّساع رغم الإجراءات القمعية للسلطات السياسية والأمنية ولإدارات العديد من الجامعات، ليس معارضة حرب الإبادة الإسرائيلية وتواطؤ الحكومات الغربية معها فحسب، بل القوة الملهمة لمقاومة الشعب الفلسطيني الأسطورية في مقابلها أيضاً.نشاط حركات التضامن مع فلسطين، وبشكل خاص «حركة المقاطعة» (BDS)، في الجامعات الأميركية وبعض الجامعات الأوروبية كانت مصدراً لقلق متعاظم في أوساط القيادات السياسية والعسكرية - الأمنية الإسرائيلية، والمنظومة الصهيونية الموالية لها في الغرب، والمندمجة في داخل أنظمته السياسية وأبرز مفاصلها، منذ أكثر من عقد. أفضى هذا القلق إلى تأسيسها لوزارة متخصصة في مكافحة أنشطة «حركة المقاطعة»، هي وزارة الشؤون الاستراتيجية، التي لا تتورّع عن اللجوء إلى شتى أساليب التشهير والترويع، وحتى التهديد بالقتل ضد المناضلين في الحركة المذكورة. لكن تلك الوزارة، وغيرها من أدوات سياسة الإرهاب الفكري والسياسي الإسرائيلي، فشلت في الحد من تأثير «BDS» على قطاعات معتبرة من الطلبة في الجامعات الأميركية والأوروبية، ما ساهم في خلق أرضية مناسبة للانتفاضة الطالبية المتضامنة مع فلسطين التي نشهدها حالياً. غير أن عوامل أخرى لعبت دوراً حاسماً في صيرورة هذه الأخيرة؛ أهمها مناهضة أعتى حرب إبادة معلنة منذ الحرب العالمية الثانية ورفض التواطؤ الصامت معها، وإعادة اكتشاف ماهية قضية الشعب الفلسطيني والتماهي مع مقاومته، والتصدي للميل المتزايد لدى «رأسمالية السيطرة» إلى الاستبداد، وتضييق مساحة الحريات السياسية والعامة، وخنق أي حركة احتجاج ضد توجهاتها الرئيسيّة.
غزة تلهم اليوم جيلاً جديداً بأنّ المقاومة هي الحل الوحيد لمنع القوى العاتية المسيطرة من التحكم الكامل بمصائر البشرية


لا حاجة إلى الإفاضة حول الدور الحاسم لكسر هيمنة وسائل الإعلام الغربية الرئيسيّة على الفضاء الإعلامي العالمي بفضل الدور المتنامي لتلك غير الغربية، ولوسائل التواصل الاجتماعي، في كشف حقيقة حرب الإبادة الإسرائيلية ووقائعها ساعة بساعة أمام قطاعات لا يستهان بها من الرأي العام العالمي. أدّى توافر مصادر معلومات بديلة في مساحات كالجامعات توجد فيها أصلاً مجموعات مؤيدة للقضية الفلسطينية منذ سنوات، إلى خلق مناخات ملائمة لتنظيم حركة معارضة للحرب الإسرائيلية باعتبارها حرب إبادة تشن بمشاركة الحكومات الغربية، وفي مقدمتها الإدارة الأميركية، التي تقدم كل أشكال الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، وبوصف الصمت عليها يعني التواطؤ لا أقل. بكلام آخر، فإن الكتلة الأوسع من الطلبة الذين انضمّوا إلى انتفاضة الجامعات الجارية حالياً، فعلوا ذلك أولاً على قاعدة موقف أخلاقي - سياسي يلخّصه شعار: «ليس باسمنا». إضافة إلى ما تقدّم، فإن العديد من هؤلاء باتوا يعرفون اليوم التاريخ الفعلي لبلادهم والجرائم وعمليات الإبادة التي ارتكبتها أنظمتها السياسية بحق السكان الأصليين في حالة الولايات المتحدة، وبحق شعوب المستعمرات في حالة الدول الأوروبية، وهم لا يريدون أن يكونوا شركاء بِصمتهم على جرائم مماثلة اليوم.
لقد أعادت حرب الإبادة الإسرائيلية تعريف القضية الفلسطينية في نظر أوساط معتبرة من الرأي العام، على أنها أولاً قضية شعب يكافح من أجل البقاء في مواجهة مشروع استعماري - اقتلاعي إحلالي يجهد لإفنائه. وهي سمحت بربط الحاضر بالماضي، وأظهرت الطبيعة الفعلية للمشروع الصهيوني وغاياته النهائية حيال الفلسطينيين. وقد عكس الشعار المرفوع في جميع فعاليات هذه الانتفاضة، في الولايات المتحدة وفي أوروبا: «من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر»، تلك القناعة حيال الصهيونية. القوى المشاركة في الانتفاضة الطالبية متنوعة، وهي تضم مجموعات سياسية وتيارات ذات خلفيات متمايزة وطلبة من أصول مختلفة. نحن أمام ائتلاف نجد في صفوفه يساريين بتنويعاتهم المختلفة ومسلمين ومسيحيين ويهوداً متدينين وناشطات نسويات ومدافعين جذريين عن البيئة وكتلة عريضة من الطلبة غير المنتمين بالضرورة إلى تيار فكري - سياسي محدد. لكن جميع هؤلاء يتفقون على ضرورة مناهضة حرب الإبادة، ومن يقف وراءها، ويعتبرونها مؤشراً خطراً إلى الوجهة التي يتطور نحوها العالم. فقد أثبتت الحرب الجارية حالياً أن قانون الغاب يسود العالم أكثر من أي مرحلة سابقة، وأن مقولة «النظام الليبرالي الدولي» هي مجرد خرافة، وأن مقاومة التوحش هي الحل الوحيد المتاح في الظروف الراهنة. قد لا يتفق قسم كبير من المشاركين في الانتفاضة الطالبية على البديل المطلوب للنظام الدولي الراهن، وعلى النموذج السياسي - الاجتماعي الأكثر عدلاً، وغالبيّتهم لا ترى تجسيداً لما تطمح إليه في الأنظمة القائمة حالياً في أنحاء الكوكب، لكنهم يجمعون في المرحلة الحالية على الأقل على ضرورة المقاومة ويجدون في غزة نموذجاً لإرادة المقاومة التي لا تنكسر رغم الأهوال والمآسي.
القمع والتنكيل اللذان يتعرض لهما المشاركون في الأنشطة المؤيدة لفلسطين، ومن ثم في الانتفاضة الطالبية، من قبل السلطات السياسية، التي عملت على تجريمهم منذ بداية تحركاتهم عبر اتهامهم بـ«العداء للسامية»، ومن قبل الأجهزة الأمنية التي تتبع سياسة تنكيل بحقهم على المستويين الفردي والجماعي، ومن قبل العديد من إدارات الجامعات التي اتخذت بحق الكثيرين منهم إجراءات عقابية تصل إلى حد الطرد من الجامعة، هي ممارسات تؤكد وجاهة مخاوف العديد من المفكرين الذين حذّروا - وبعضهم مبكراً جداً - من مخاطر التحولات التي تعتمل في داخل «الرأسماليات البرلمانية»، التي تصبح «دول أمن قومي» عندما تجابه معارضة جدية لتوجهاتها السياسية الرئيسيّة، ودعم إسرائيل من بين هذه التوجهات. لكن القمع الموجّه إلى الطلبة كان عاملاً في تأجيج الانتفاضة وتوسيع نطاقها عبر انضمام جامعات أخرى إليها، وربما في خروجها من داخل حرم الجامعات نحو شوارع المدن في القادم من الأيام. ثورات «التحرر الوطني»، من مثل التي حصلت في الجزائر وفيتنام، ألهمت أجيالاً من الثوريين عبر العالم، وغزة تلهم اليوم جيلاً جديداً بات مقتنعاً بأن المقاومة هي الحل الوحيد لمنع القوى العاتية المسيطرة من التحكم الكامل بمصائر البشرية.