هو رئيس جمهورية. قالها في التحقيقات، وكان يعنيها. هو ابن عصر تقسيم الدولة الى «جمهوريات» او إقطاعيات، يدير كل جمهورية «كبير» موثوق به، يترك له السلطة والثروة والسلاح ليسيطر على «جمهوريته» ويضمن الولاء للريس الكبير. «نخنوخ» بالتأكيد كان سيصبح وزيراً للداخلية او للاستثمار، اذا ما عاد مبارك او عائلته او المافيا المولودة برعايته. نخنوخ امير، كما سمته الصحافة، لكنها أخطأت حينما استسهلت وحصرت إمارته في البلطجة، وهو لا يفصل بين «المافيا» و«الدولة». كلتاهما بالنسبة إليه كيان واحد يحقق استقرار البلد، ويمنحه فرصة تضخيم الثروة والحصول على القصور وملاعب المتع الفاخرة. القبض على نخنوخ كان حدثاً الاسبوع الماضي. التقطته الأجهزة بعد عودته من لبنان، واقتحمت إمارته السرية/المعلنة في الكنج مريوط (على اطراف الاسكندرية). المملكة تضم قصور اقامة، واخرى للمتعة (اجنحة لحريم الامير) وغابة صغيرة تحوي 7 اسود وأقفاصاً فيها 20 كلباً متوحشاً... وزرافة. إنّه «مثقف عضوي» بمعنى من المعاني المقلوبة، فهو مدافع عن مصلحة «البلد» كما رآها الريس، وكان يقصد في تصريحاته الرئيس محمد حسني مبارك. وهو صادق حين يقول إنّه كان «يخدم البلد ويراعي مصالح المسؤولين الكبار الذين كانوا يحركون الدولة كما يشاؤون». هو ذراع السلطة، وكان من الممكن ان يتحوّل الى عقلها اذا دارت الدائرة واراد مركز الجمهوريات/الاقطاعيات مكافأة رجاله المخلصين، او تغيير مسمياتهم. ساعتها لن يكون نخنوخ اميراً للبلطجة، بل «بطلاً شعبياً» له بطولات في حماية البلاد من «العناصر المندسة» و«العملاء»، بداية من السيطرة على الانتخابات والى السيطرة على استقلال «الجمهورية /الاقطاعية» في مواجهة الخطر القادم. وهذا ما جعل نخنوخ يرى ان له ثأراً مع الإخوان، وانّ القبض عليه مؤامرة إخوانية، بينما كان يؤدي مهمته للحفاظ على اركان الدولة حتى يعود اصحابها. وعي نخنوخ ليس عابراً، ولا خرافياً. إنّه الوعي السري الذي حُكمت به مصر سنوات طويلة، واختير اهل الثقة من نوعية نخنوخ للسيطرة المحلية، بعيداً عن القانون وصداع الحقوق ومستلزمات الدولة الحديثة.حداثة نخنوخ في المتع (خمر وحشيش) والصداقات مع النجوم، والقدرات الواصلة لحل اي مشكلة، والوقوف امام سلطات بيروقراطية تطبق قوانينها على المواطنين، لكنّها امام «رئيس جمهورية» تتحوّل الى خدم وحراس. وقف نخنوخ فخوراً مبتسماً، هو محارب في استراحة عابرة، يتوعد ويروي تفاصيل سيطرته على «جمهوريته»، ويهدد باعترافات مصورة تورط كل من يتصدر المشهد الآن (منهم قادة إخوانيّون).
نخنوخ يتجاوز إحساس المتهم الى «المقاوم» لسلطة تجلس الآن على مقاعد سلطة كان يعمل في حماها ولاستقرارها. هو ابن نظام بنى شبكات من سلطة موازية اقرب الى عصابات سرية تعبر عن وجود قوى موازية لسلطة الدولة. قوى مالية وعائلية وربما طائفية وسياسية، تحاول حسم الحروب الصغيرة، وقطع الطريق على من يهدد مصالحها عبر تجنيد عناصر مدربين في عصابات محترفة. كان الشعور بوجود هذه العصابات احياناً اخطر من وجودها فعلاً، لأنّها قد تكون في لحظة من اللحظات عنصراً حاسماً في حسم معركة سياسية او قضائية، يتعطل فيها القانون وينتصر فيها الأقوى او الاكثر قدرة على الإيحاء بأنّه الاقوى. لم تهزم هذه السلطة الموازية عندما سقط مبارك كما انهار حزبه، لكنّها استمرت وشكلت الحرس الاخير للنظام. نخنوخ مميز بين شخصيات ظهرت وكشفت عن مساحة الاعتماد على هذه السلطة السرية/المعلنة. انّه تصريح غير معلن بوكالة ادارة منطقة من المناطق. صاحب التصريح يمكن ان يكون شخصاً عادياً، لكنّه فجأة يتحوّل إلى «زعيم مافيا» يحكم ويتحكم ويدير عصابات ويؤدي أدواراً في السيطرة على منطقته. هذا الدور يقال إنّه بتكليف من الأجهزة الأمنية. ولا رد من الأجهزة سوى تصريحات بالنفي لا يصدقها الناس غالباً.
البربري لم يصل إلى مستوى عزت حنفي أو نوفل سعد، لكنّه تصرّف مثلهما، أو كان في طريقه لفرض سيطرته على المنطقة. وهذا لا يكون إلا مكافأة. السؤال هو على ماذا؟ على تأمين المنطقة أم على إرشاد المباحث إلى أسلحة ومخدرات؟ أخطر الأدوار تكون عادة في «تقفيل» الانتخابات وسرقة الصناديق أو تخويف الخصوم وأداء دور سرّي في حسم الانتخابات. هذه الشبكات موجودة وعملت على نحو متوتر اثناء المرحلة الانتقالية الأولى، وكانت حصن المقاومة الفعال في وجه الثورة. ليس معروفاً بدقة حجم هذه الشبكة او مدى تأثيرها، لكنّها لا تزال مؤثرة، ويمكن تفعيلها من قبل اي سلطة، لأنّها ببساطة تعمل بقانون الولاء للراكب على السلطة. نخنوخ الفخور بقوة الدهاء، والقدرة على السيطرة على آلاف الرجال، حسم معارك انتخابية من الرئاسة الى البرلمان، وكان بين قومه رئيساً يرعى ويوجه ويوظف إمكانيات أهل جمهوريته لمصلحة ما يراه في «مصلحة البلد». انه الذراع القوية التي تتحرك في الخفاء بخفة بعيداً عن تعقيدات القانون لتحسم الخلافات وتفرض حضور القادر على دفع تكاليفها. زعماء هذه العصابات اصبحوا شركاء في السلطة و«مثقفيها العضويين». ليس نخنوخ الفصيح الاول الذي يحمل وعياً او يرضى بدور منفذ الاوامر، عزت حنفي رئيس جمهورية اخر في الدخيلة (في الصعيد) كان فيلسوفاً (بمعنى ما) وشاعراً يحمل بين كلماته «ايديولوجيا» للحكم والسلطة. هؤلاء ليسوا بلطجية بالمعنى التقليدي، ولا مجرمين، إنهم شركاء في سلطة تتعرض شركتها الآن لاعادة بناء او توزيع لحصص المصالح. وهذا سر لغة تحدي نخنوخ للجميع. فهو يدافع عن جمهوريته وحدودها في مواجهة المؤامرة.



سيناء والنسر

السلطة تعني في مقام ما، سلطة التسمية: يصبح الإرهابي جهادياً، بفعل سلطة تقودها جماعة كانت «محظورة». التسميات تنقلب، ليتحول الإرهابي الذي تطارده العملية «نسر» في شبه جزيرة كاملة (سيناء) إلى جهادي وله مطالب يبلغها إلى وفد رئاسي، لم يضم طبعاً إلا سلفيين بدرجاتهم المختلفة على السلم، من التطرف إلى الاعتدال.
الجهادي الذي كان إرهابياً حتى وقت قليل، سيقابل الرئيس عند العودة من رحلته خارج البلاد. ماذا سيقول له؟ وكيف سيتقابلان؟ «النسر» نام مؤقتاً، وتوقفت عملية مطاردة عصابات الإرهاب التي صوّرتها الأخبار الواردة بأنّها «تورا بورا» مصرية. لماذا نام النسر؟ الجيش سمّى حملته على «الإرهابيين» باسم يفتقر إلى الخيال الجديد، يعبر عن سيطرة لم تتم إطلاقاً على سيناء. نسر يطير ويفرض سطوته، لكن الإرهابي أصبح جهادياً، فماذا سيفعل النسر؟ الجهادي أنكر علاقته بجريمة رفح، وتعهد بالمساعدة في العثور على المجرمين. لكن نسر الجيش مهمته التمشيط بالطائرات والدبابات، ليخلص سيناء من جحافل «تورا بورا». فمن وراء تحجيم عملية التمشيط؟ انقلاب التسميات يثير كل ما قيل عن زيارة الوفد الرئاسي وصفقاته مع «رفاق» الحركة الاسلامية. ها هم في السلطة وها هو التمشيط يتحوّل الى تفاوض وزيارات متبادلة ووعود بتلبية مطالب الحركة الاسلامية في سيناء. هكذا قالت مصادر حاولت نفي فكرة «الصفقة»، بينما الجماعات السلفية (في أغلبها) أعلنت ثقتها بالتطمينات. الوفد الرئاسي في تصريحات يقولها مصدر يرفض ذكر اسمه، ليس رئاسياً، لكنه وصل سيناء في حافلات الرئاسة. إنه وفد من الجهاد، يقابل زعماء «السلفية الجهادية» في سيناء. لماذا إذن توقف النسر أثناء اللقاء؟ وهل حقاً كان من ضمن منفذي عملية رفح جهاديون أفرج عنهم في العفو الرئاسي؟ لا شيء واضح سوى انقلاب التسميات، فالسلطة الآن في أيدي محاربين قدامى للدولة الحديثة. والمحاربون الجدد خرجوا من أفكارهم، لكنهم لم يكملوا الدائرة بعد ليصلوا الى التوبة. الدائرة لا تزال مفتوحة في فترة الضباب التي تعيشها الدولة الحديثة في مصر. السلفية الجهادية تنفي علاقتها بجريمة رفح، وتنفي فكرة الهدنة، وتطالب بإقامة هادئة في شبه الجزيرة، بينما الرئاسة تحاول اللعب في المسافة بين الرفاقية في الجهاد وبين فرض السلطة على منطقة التوتر. هل تحدث المواجهة بين رئيس انتمى طوال حياته الى تنظيم عبر الدائرة من التطرف الى الاعتدال في مواجهة تنظيمات لا تزال في مرحلة الجهاد النشط؟ هل يواجه الرئيس الإخواني الجهاد؟ أم تحدث الهدنة؟ أم ينطلق النسر من جديد خارج سيطرة الرئاسة؟




الدولة الأمنية تستعيد سر وجودها




الآن مصر أصبحت دولة مدنية تماماً. نعم تماماً، وكما اعلن المرسي في حواره قبل الطيران الى الصين. يحدث هذا بينما تعلن كل طقوس هذه الدولة من وجهة نظر صاحبها. طقوس جديدة تغطي السير على الإيقاع القديم.
ففي الوقت الذي اعلن فيه فريق رئاسي قبل الاعلان عن صلاحياته، اعلن ايضاً عن مشروع قانون طوارئ جديد، ينسب هذه المرة الى شيخ من شيوخ مجموعات الاستقلال، أي المستشار احمد مكي، وهو وزير العدل. إلغاء قانون الطوارئ اهم مطالب الثورة، والنضال ضده كان يجمع طيفاً واسعاً من السياسيين والصحافيين والقضاة ايضاً. لماذا يعود بينما طقوس دولة المرسي تعلن مدنيتها، أم أنّه طبعة فريدة؟ ولماذا يعود على يد من كان يقف ضده؟
هناك ضغوط دفعت وزير العدل المستشار احمد مكي إلى تبني قانون طوارئ جديد، لكنني لا أتصور أنّ إصدار القانون هو الحل الوحيد، أو أنّ إصداره «رد فعل» على أزمة البلطجة (التي يعرفون مفاتيحها) وانتشار تجارة السلاح، لا في اطار «فعل» يحقق الامن بمفهوم جديد مختلف عن مفاهيم الدولة المستبدة. دولة استقرارها في قهر المواطن ومعاملته معاملة المجرم حتى لو ثبتت براءته. كتبت قبل شهور قليلة من سقوط مبارك، في الذكرى الثلاثين لتمديد العمل بقانون الطوارئ: ثلاثون سنة بالتمام والكمال، وقبلها سنوات لا تعد ولا تُحصى، ولا دولة محكومة بالطوارئ، وكل مرة بسبب عابر يصبح دائماً، ولفترة محدودة تتحول الى دائمة.
الطوارئ مثل القروض هو الحل السهل. قال مبارك في تجديد قانون الطوارئ إنّه في مواجهة البلطجة والإرهاب. وقال المستشار مكي إنّه في مواجهة البلطجة. العدو كان ايام مبارك في الداخل، واليوم العدو ايضاً داخلي. وبدلاً من اعلان مشروع كامل لتطوير جهاز الامن وتغيير مفاهيمه وتطوير أدواته، لا أحد يفكر أبعد من تدعيم تخلف الجهاز وترسيخ أدواته المستوحاة من العصور الوسطى السياسية.
جهاز الامن فاشل في التحول من القمع الى الديموقراطية. لم تتعود أدواته الا قهر المواطن الذي لا سند له، وادارة الجريمة بدلاً من مكافحتها. لماذا لا تواجهون هذه الكارثة وتطلقون يد الجهاز نفسه بقانون يتيح له اعادة المواطن الى وضع «المقهور»؟ كتبت في ذكرى التجديد الثلاثين إنّ: نظام مبارك (كان) بلا اعداء في الخارج تقريباً. هذا ما تقوله خطابات خارجة من اعلى مؤسسة (الرئاسة)، الى المؤسسات المعنية (الجيش والخارجية وغيرهما). العدو داخلي كما نفهم من تبرير طلب تمديد العمل بقانون الطوارئ للعام الثلاثين على التوالي. الارهاب والمخدرات. القانون موجه لحماية «الدولة» من خطر ربما يكون عادياً لدول أخرى، لكنه يحتاج إلى أحكام عرفية طويلة المدى بالنسبة إلى مصر.
وكتبت أنّ مصر مثل بقية دول الاستبداد تستدعي قانون الطوارئ كأداة اساسية في صنع الاستقرار. تجسده في الشوارع حواجز امنية مزروعة على الطرقات بكامل «هيبتها» لتذكّر من ينسى ان الدولة موجودة. القانون غالباً ذريعة لوجود «هيبة» الدولة في الشوارع، إذ إنّ قانون الطوارئ بنسخته الاميركية او الاوروبية لا يعني التواجد المكثف للشرطة في الشوارع. إنه تطبيق لقانون لا الغاء لفكرة القانون. الطوارئ هو قدر دول لم تستطع ان تقدم بعد سنوات الاستقلال الا الفساد والارهاب. انسحبت من جبهاتها في الخارج، ووظفت كل إمكانياتها لترويض الشعوب والمجتمعات في «ثُكن» لها طابع عسكري، مع اختلاف هيئته من الاشتراكية الى الرأسمالية. الحكام هم أنفسهم. تتغيّر ملابسهم من ابطال التحرير من العدو الخارجي الى ابطال السلام الداخلي... من الحرب ضد الاستعمار والاحتلال الى جماعات الارهاب المسلح. دولة ممتدة، حكامها خالدون، يلعبون بالمصائر والارواح. يديرون كل يوم لعبة لكي لا يرى احد ماذا فعلوا، او لماذا هم مستمرون. كتبت يومها أنّ الشعوب ربما (كانت) تغني «يا ليت الاستعمار يرجع لأحكي له عما فعل بي الاستقلال». وكنت أتمنى ألا تكتمل الأغنية لتقول «وماذا فعل نظام اول رئيس منتخب بعد الثورة؟». هل يمكن ان نفكر لماذا فشلت دول ما بعد الاستقلال عن الاستعمار؟ العسكر الذين حرروا البلاد استعمروها كأنّ الاستعمار القديم لم يخرج، فقط ترك لهم توكيلاً لإدارتها. اميركا في مصر اقوى مما كانت عليه بريطانيا. وفرنسا في مستعمراتها القديمة من الجزائر الى المغرب مروراً بتونس اقوى واكثر حضوراً. بينما يد ايطاليا اقوى في زمن العقيد. الاستعمار تحوّل الى أب روحي لأنظمة ما بعد الاستقلال، والدول «المتحررة تحصد ما زرعته أنظمة لم تهتم الا بتجييش شعوبها وضبطهم على وضع الاستعداد»، وتهيئتهم للحياة الخالدة في ظل الطوارئ. الحكومة المصرية قالت إنّ قانون الطوارئ لم يعطل الحياة السياسية، وإنه يُستخدم ضد جماعات الارهاب او تجار المخدرات. وهي حقيقة لكنها ليست كاملة. فالقانون لم يعطل الحياة السياسية، لكنّه جعلها معلقة في يد اجهزة الشرطة، كما سمح القانون للنظام بفرض «مناخ» ضد السياسة.
«الطوارئ» يجعل الامن سيد الدولة. يقودها ويتحكم في مزاجها العام. عندما يتحول الامن إلى سلطة بهذا المعنى، سيخلق سياسة اليد الطولى، المعروفة طبعاً بعدم التوازن بين المجتمع والدولة. والاهم انها دولة اشخاص لا مؤسسات. الحاكم هنا استثنائي، ويحتاج إلى قانون استثنائي لاستمرار حكمه. وسيظل الطوارئ قانون الحكم لا مجرد قانون يحمي البلاد من أعداء متخيَّلين او حقيقيين.
الطوارئ في بلاد مرت بالديموقراطية، قانون شعبي يرفع الدرجة الامنية، لا يضمن استمرار النظام. اجهزة الحكم في مصر لا تتعامل مع الطوارئء على انه قانون عادي، بل على أنّه سر الوجود.
وهذا هو المرعب في قانون ينسب الى المستشار مكي. الدولة الامنية تستعيد سر وجودها، لأنّ قانون الطوارئ عاد بينما ظلت المؤسسة الامنية مكانها، مثل ذئب جريح عاد لينتقم.